نصف معدة.. نصف شهية

01:15 صباحا
قراءة دقيقتين

في الأرشيف الشخصي مادة بعنوان «النباتيون في الأرض» (الخليج الثقافي 3 سبتمبر 2018) منها سريعاً هذا السطر كمدخل إلى ظاهرة النباتية المعروفة بين كثير من الكتّاب والفنانين والشعراء والفلاسفة: «في قلب الإنسان أربع حجرات، شعرياً، واحدة للحب، وواحدة للحزن، وواحدة للصمت، وحجرة أخيرة للكلام»، أما المعدة التي يُقال إنها بيت الدّاء فهي حجرة واحدة».
المعدة بيت الداء حين تكون دائمة الامتلاء، بذلك الشبع الثقيل الذي يعيق الحركة أحياناً، ويحول الكائن البشري إلى وعاء طعام.
أَلِهذا السبب هرب النباتيون من المطبخ الذي يفور باللحم والشحم إلى الحقول والغابات، حيث كل ما هو نباتي هو شعري، وخفيف، وغنائي.
ما الذي يجمع بين النباتيين الذين نعرفهم في الفن والشعر والفلسفة وحتى الرياضيات؟، هل هو العمر الطويل بسبب تجنّب أكل اللحوم؟. لا. هناك نباتيون ماتوا في الخمسين والستين من أعمارهم، وهناك مَن عُمّروا.. وماذا أيضاً؟، ما الذي يجمع بين النباتيين؟.. عبقرياتهم العالمية؟، أم ذكاؤهم الطاغي، أم إنسانيتهم الغزيرة؟.
عاش سيرفانتيس النباتي المسرحي أيضاً من 1547 إلى 1616، وجعل من رواية «دون كيخوته» علامة أدبية مذكورة دائماً من مرحلة ثقافية عالمية إلى أخرى، وإلى اليوم تطبع وتقرأ «دون كيخوته» وتنفد من الأسواق، في حين أن بعض روايات زماننا تطبع 1000 نسخة يبقى منها 500 في المخازن.
كان بول مكارتني (1942) وحده ظاهرة غنائية في ستينات القرن العشرين، واسم فرقة «البيتلز» حاضر إلى اليوم في ذاكرة العالم الموسيقية.
نباتي آخر براد بيت (1963) لم يقتحم السينما بوسامته الطاغية؛ بل بتلك الغنائية السينمائية العالمية التي جعلت منه صاحب أربعة أوسكارات من عام 2009 وحتى عام 2020.
وكانت نباتية غاندي صورة إنسانية عالمية. زعيم روحي وسياسي جعل من ثقافة المقاومة السلمية المدنية نهجاً حضارياً بذلك التقشف الأقرب إلى طبيعة الصوفي.
نباتيون متشابهون في الأرض كأنهم من سلالة واحدة. برنارد شو (1856 ـ 1950) الذي جلس على خمسين مسرحية وضعها بهدوء الساخر وكبرياء الفيلسوف، أما النباتي «المتعدّد» لينواردو دافنشي فهو عشرة رجال في رجل واحد: رسام، مخترع، نحات، أديب، معماري، موسيقي، فلكي، جيولوجي، خرائطي، وأكثر من ذلك إذا أردت أن تضيف إلى هؤلاء، فقل إنه نبوئي، وساخر.
ليو تولستوي، أبو العلاء المعري، جان جان روسو، سقراط، آينشتاين، فيثاغورس وغيرهم، المئات من متأمِّلي هذا العالم، وشعرائه، وفلاسفته، وضعفائه، ونبلائه ممن كانوا يكتفون بالقليل من الخبز والماء والملح، ودائماً في خفة الهواء.
ينأى النباتي عن الشبع والامتلاء والثقل. يظل دائماً في لحظة الخفة، أشبه بجندب أو سمكة أو عصفور، ودائماً، بنصف معدة، ونصف شهيّة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"