الطبقة الوسطى بعد الحرب الأهلية

00:41 صباحا
قراءة 3 دقائق

لا يمكن للفكر السياسي العربي الراهن أن يُدير ظهره للظواهر الاجتماعية/السياسية التي نشأت في العقد الأخير، خصوصاً في البلدان التي شهدت حروباً واضطرابات أهلية وفوضى، كما حدث في سوريا وليبيا واليمن؛ بل على هذا الفكر أن ينخرط في عملية فهم هذه الظواهر، من أجل تقديم بعض التنبؤات الضرورية التي تفيد في بناء مستقبل أفضل لهذه البلاد، بحيث يكون بالإمكان للعاملين في الشأن السياسي، من صنّاع القرار والسياسيين والفاعلين الاقتصاديين والنخب، أن يبنوا تصورات عقلانية ومعقولة لإعادة بناء دولهم، وترميم الفضاء الاجتماعي بعد أن طالته الانقسامات على أكثر من صعيد.
في السنوات الماضية طُرحت العديد من التحليلات حول أسباب ما جرى في المنطقة عموماً، وفي الدول التي طالتها الحروب الأهلية خصوصاً، لكن معظمها انحاز للتأويلات الأيديولوجية، وهي تأويلات لا يمكن إنكار أهمية بعضها، ليس لمطابقتها للواقع دائماً؛ بل لأننا لا نستطيع أن نستثني العامل الأيديولوجي من أي تحليل فكري للظواهر الاجتماعية/ السياسية، ليس في بلداننا فحسب؛ بل في كل مكان من العالم، فالكائن الفكري/السياسي بطبيعته، وبدرجة نسبية ما، هو كائن أيديولوجي، وللتخفيف من جرعة الأيديولوجيا من تحليل ما مررنا به في عالمنا العربي، ربما علينا أن نذهب لحقول أكثر موضوعية من الحقل الأيديولوجي؛ أي تحليل الواقع الطبقي في مراحل ثلاث: الأولى مرحلة استقرار الأنظمة القديمة، ومرحلة الحرب، وأخيراً مرحلة المستقبل.
كل حرب بالمطلق هي تعبير، بشكل أو بآخر، عن انسداد الأفق السياسي، وعدم قدرة النخب المتصارعة على إيجاد حلول سياسية، وإذا كان الجنرال والمؤرخ الألماني كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831) قد صاغ تعريفاً للحرب لا يزال الأشهر، حيث وصفها بأنها «امتداد للسياسة لكن بوسائل أخرى»، فهي أيضاً تعبير عن صراع لم يجد له حلاً سياسياً؛ بل وذهاب خارج السياسة، هو في كثير من الأحيان ضد المصالح الحقيقية للأطراف المتصارعة، خصوصاً على المديين المتوسط والبعيد، وهو ما ينطبق بشكل أكثر وضوحاً على الحروب الأهلية التي ينتهي بعضها إلى حالات تقسيم للجغرافيا والسلطات، وعودة قوى الاحتلال، وفقدان القوى المحلية لمكانتها ودورها.
مما لم يلتفت إليه التحليل الفكري والسياسي (بشكل كافٍ) للحروب الأهلية التي أعقبت ما يسمى «الربيع العربي» هو الجانب الطبقي، واللحظة التاريخية التي يمر بها العالم؛ أي تحوّلات النظام الاقتصادي العالمي تحت ضغط ثورتي التقانة والاتصالات، وتحديداً تحوّلات الطبقة الوسطى العربية، والتي زاد وعي قسم كبير منها بضرورة المشاركة، ليس في السياسة فحسب، وإنما أيضاً في حصتها من الثروات، والتي كانت النخب الحاكمة قد أحكمت قبضتها على آليات وطرق توزيعها. وليس مستغرباً أن تكون الأهداف المعلنة للاحتجاجات مرتبطة بالحرية والعدالة الاجتماعية، فهي مطالب يمكن ربطها بشكل أكبر بالطبقة الوسطى، أكثر مما يمكن ربطها بالفئات الفقيرة والمهمشة.
تحوّل أي صراع وطني إلى حرب أهلية على مدار سنوات، هو استنزاف للثروات الوطنية بالمجمل، وفي الوقت نفسه هو تغيير للمعادلات الاجتماعية، ومنها المعادلات الطبقية، خصوصاً الطبقة الوسطى، التي تأخذ في التقلّص والتلاشي، لمصلحة زيادة مساحة الطبقة الفقيرة والمهمشة، إضافة إلى تغيرات في طبيعة الفئات التي تستحوذ على الثروات، والمقصود هو ظهور فئة أمراء الحرب الذين راكموا ثروات طائلة من أدوار وظيفية غير إنتاجية، ستعينهم تلك الثروات لاحقاً على إعادة موضعة مكانتهم وأدوارهم في مرحلة ما بعد الحرب.
تَبيّن هذه اللوحة الطبقية ضروري في فهم ضعف القوى الديمقراطية، ليس خلال الحروب الأهلية؛ بل أيضاً في المرحلة التي تليها، فعلى الرغم من أن الحروب الأهلية التي شهدها العالم العربي ولّدت في بلدانها الكثير من القوى السياسية التي تتبنى الديمقراطية شعاراً، لكن هذه القوى تفتقد في حقيقة الأمر حاملها الطبقي؛ أي الطبقة الوسطى.
هل يمكن تجنّب ديمقراطيات مشوّهة وهزيلة في مرحلة ما بعد الحروب الأهلية؟
الجواب الأولي الموضوعي قياساً على المقاربات التاريخية قد يأخذنا فوراً إلى التشاؤم، لكن دور النخب الديمقراطية الوطنية لا يرتبط فقط بإطلاق الشعارات؛ بل بالعمل على إحداث تحوّلات في الواقع تجعل من الديمقراطيات الناشئة قابلة للتطوير، وهو ما يتطلب اهتماماً خاصاً بالبرامج الاقتصادية والإدارية التي تتيح إمكانية بناء منظومات إنتاجية، تساعد على إعادة توليد طبقة وسطى جديدة، ما يعني تجنّب الريع لمصلحة الإنتاج.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"