زمن الوباء

00:40 صباحا
قراءة 3 دقائق

لم تكن البشرية قد تلقت تلك الجرعات العالية من التحولات العاصفة، التي شهد عليها العالم في العقدين الأخيرين؛ ولا تمالكت نفسها بعد في مواجهة آثارها الاجتماعية والنفسية العنيفة، حتى باغتها وباء كورونا، على حين غِرة، وأوقعها فشوّه واستفحال أمره في حيرة غير مسبوقة. لقد بدا الوباء، بعصف الشديد بالأبدان والنفوس والأقوات، غير متوقّع أَلبتة إن قورِن بغيره مما جرى من تحوّل قابل، في كل حال، أن يدخل في دائرة التوقّع حتى وإن استعصى كفه أو احتواء بعض آثاره. هكذا أتى زمن الوباء «يختتم» زمن التحول العاصف ويتمخض عنه. ولكنه أتى، في الوقت عينه، يفضح هشاشة بنياته ومحدودية إمكانه.
 ما كانت جائحة الوباء هذا حادثة عابرة في مجرى التاريخ الإنساني المعاصر، تُخلف ما تُخلفه من ضحايا وخسارات وتضمحل، كأي كارثة أخرى نظير الزلازل والأعاصير والبراكين والفيضانات والمجاعات، أو كأي كارثة إنسانية مثل الحروب؛ فجائحة كورونا لا تشبه سواها من الجوائح في الشدة ووطأة النتائج: فإلى أنها أذهبت مئات الآلاف من الأرواح، وأصابت أبدان عشرات الملايين في أنحاء العالم كافة وما زالت، حتى كتابة هذه السطور، تفتك بالناس من دون أن يتبيّن في حُلكة نفقها أفق، فقد شلّت الحياة والاجتماع الإنساني، وهبطت بالفعالية الفرديّة والجماعية إلى درك أسفل، وغيّرت تغييراً عميقاً في منظومة العلاقات الاجتماعية والعلاقات بين الأمم، وفي السلوكات الفردية والعامة، ورفعت من معدل المخافة الإنسانية من مجهولِ مستقبل لم يعُد يُعلَم سره الغامض.
 هل قليل ما فعلته الجائحة، وتفعله، بالحياة والصحة والسلامة البدنية والنفسية في العالم كله؟ وهل قليل أن تضرب الاقتصاد في مقتل؛ فتشل حركة الإنتاج والتجارة والمبادلات، وتهبط بنسب النمو إلى تحت التحت، وتُخِل باتّوازن بين العرض والطلب، وترفع أسعار المواد الأساس والمنتوجات...؟ وهل قليل أن تُربك سير النظام التعليمي في معظم العالم وتقفله على آخرين في بعض العالم، فتنذِر بحقبة من تدني مستويات التكوين والتأهيل لدى جيل كامل من المتعلمين؟ وهل قليل أن تأتي بنتائجها السوداء على ملايين فرص العمل في العالم، فتسرّح جحافل العاملين وتقذف بهم إلى دائرة البطالة والتهميش، وترفع من معدلات الخصاصة والفقر والإملاق، خاصة في البلدان الفقيرة إلى الموارد والإمكانيات؟ إن ما فعلته جائحة كورونا بالإنسانية، اليوم، لا يقاس به فعل أي جائحة أخرى أو كارثة أخرى في التاريخ بما في ذلك ما فعلته الحربان العالميتان والحروب الأهلية.
 ولكنّ الجائحة فضحت، أيضاً، ما كان مخبوءاً أو ما كان مألوفاً التعايش معه وكأنه من العوائد المتواضَع عليها. لقد فضحت نظاماً اجتماعياً – اقتصادياً وسياسياً سائداً في العالم، منذ قرون ثلاثة، في أشكال مختلفة منه هنا وهناك، ولكن يجمعها جامع سماته المشتركة. إنه نظام الاستهلاك؛ النظام المصمّم على منوال معلوم هو إنتاج الحاجات المادية؛ بل قُل تصنيع الحاجات وخلقُها من عدم بغية توليد غريزة الاستهلاك.
 أما الواعز من وراء ذلك فالربح لأن المنوال الإنتاجي قائم عليه ولا قيام له من دونه. والربح لا يتأتى إلا من وراء تنمية الاستهلاك وتنشيطه: استهلاك الحاجات الفعلية والحاجات الوهمية أو المولّدة. ولقد حوّل النظام هذا الإنسان إلى كائن مستهلك، لهوف على إشباع مطالبه المادية وغرائزه. وهو إذ صب استثماراته الخرافية في اقتصاد الاستهلاك، سعياً وراء ربح يتنامى بتنامي ذلك الاستهلاك، أعرض عن الاستثمار في القطاعات الاجتماعية الحيوية، ومنها الصحة. لا غرابة، إذن، في أن يعجز عن مواجهة الوباء حين طفح كيله.
 وعلى الرغم من أن زمن الوباء هذا، غير مسبوق في درجة شراسة ڤيروس كورونا – الذي فشا في أركان الأرض فشواً كبيراً نتيجة عولمته – وغير قابل للمواجهة والكف إلا من طريق استراتيجيات عالمية تشاركية؛ في البحث العلمي، وتصنيع اللقاحات، والسياسات العلاجية الحمائية، إلا أن مظهراً ولو رمزياً لأي إرادة عالمية جماعية في هذا الاتجاه لم يُفصح عن نفسه بتاتاً. لقد تُرِكت كل دولة وشعب لقدرهما مع هذا الفيروس الفتاك من غير عون وإسناد (خاصة الفقيرة منها). وحتى حينما بزغ أمل في كفه بتصنيع لقاحات (أوروبية وأمريكية وصينية وروسية وهندية...) دخل الجميع في معركة التنافس على احتكار الأسواق لاغتنام الفرص السانحة وتعظيم الأرباح. هكذا بدا كأن المسألة لم تعد استنقاذ الحياة الإنسانية، بقدر ما هي مسألة صراع مصالح تجاريّة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"