جنوب جديد

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

مثلما أنهى نظام الأوحدية القطبية، الذي نشأ بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، نظام القطبية الثنائية الذي كان سائداً قبله، كذلك قطع الطريق على منظومة أخرى دولية حاولت، منذ النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين، الصيرورة قطباً جديداً يزاحم القطبين الكبيرين؛ هي منظومة دول الجنوب الملتئمة في نطاق حركة «عدم الانحياز». ولم يكن نظام الأوحدية القطبية قد أنهى حلماً جنوبياً، فحسب؛ بل أودى حتى بالمنظومة عينها كإطار تضامني بين بلدان الجنوب، وأفقرها من موارد القوة التي كانت لديها، وأولها استقلال القرار الوطني لدولها؛ الذي هو شرط لازب لحيادها أو لعدم انحيازها.

 والحق أن العد العكسي لتجربة عدم الانحياز بدأ، مبكراً، منذ مطالع عقد الثمانينات، لتبلغ هذه لحظة التهالك والتفكك عشية الانهيار السوفييتي. وكان المآل هذا طبيعياً في ضوء تناقضات دولها، وتنافر خياراتها السياسية وولاءاتها الدّولية، ثم الإخفاقات المتعاقبة لمشاريعها في التنمية الوطنية المستقلة، التي كانت قد أطلقتها منذ نيلها الاستقلال السياسي. ويكفي دليلاً على ذلك كله أنها سرعان ما دخلت في شبكة علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية التي شدتها إما إلى الميتروپولات الرأسمالية الغربية – وهذه حال الكثير منها – أو إلى المركز السوفييتي: وهي حال القليل من دولها ذات الخيارات «الاشتراكية». وهكذا لم تكن حالة الاستقطاب الدولي، بين العظميين، قد ضربت في مقتل وانتهت الحرب الباردة (=المجال الحيوي لحركة دول عدم الانحياز)، حتى كانت أزمات الأخيرة قد نضجت لقطاف نتائجها من خارج، وتولت معها قدرتها حتى على البقاء كمنظومة تحاول اجتراح مكان لها في العالم.

 اليوم، بعد ثلاثين عاماً من نهاية الحرب الباردة ونهاية الاستقطاب الدولي ومعه حلم قطبية الجنوب؛ وبعد حقبة مريرة من معاناة بلدان الجنوب أحكام العولمة المجحفة في عهدها الأول، يتكوّن مشهد جنوبي جديد مختلف عن ذي قبل. أَظهر ما في هذا المشهد أن دولاً عدة من الجنوب قطعت شوطاً كبيراً في إقلاعتها الاقتصادية والعلمية والتقانية، في العقدين الأخيرين، لتصبح قوى يحسب لها حساب في موازين موارد القوة، بعد إذ كانت فقيرة وضعيفة لا يقام لشأنها اعتبار. إن دولاً جنوبية مثل البرازيل، والأرجنتين، وجنوب إفريقيا، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، وإندونيسيا، وسنغافوره... تحتل، اليوم، مراكز متقدمة في سلم القوة الاقتصادية والعلمية، وتحقق لنفسها معدلات عالية في التنمية تغالِب بها مشكلاتها، وتحقق بها قدراً من الاستقلال الاقتصادي. وهل قليل أن تصبح مستعمرة للبرتغال، هي البرازيل، أقوى أضعاف المرات من مستعمِرها؛ وأن توشك دولة أخرى استعمرتها بريطانيا، هي الهند، على التفوق على مستعمِرها اقتصادياً؟

 هذا الجنوب الجديد يتعزز، اليوم، بشرق اقتصادي وعلمي وتقاني جديد: شرق روسيا والصين والهند القوي؛ وحيث اثنتان منه من دول الجنوب أيضاً. ليس مهماً إن كان هذا الجنوب سيعيد بناء منظومته المتداعية، المهم أن يجد سبيلاً إلى التعاون بين دوله حماية لمصالحها.

 من نافلة القول إن هذا الجنوب الجديد يَكسر، اليوم، حلقة أخرى من حلقات احتكار الغرب للقوة والسلطة والثروة، التي ظل له سلطان عليها منذ صعوده في القرن الثامن عشر. والحلقة هذه، التي كسرها الجنوب، هي حلقة احتكار الثروة. كانت مزاحمة الغرب على احتكاره القوة (القدرة العسكرية الاستراتيجية) قد حصلت منذ اهتدى الاتحاد السوفييتي ثم الصين الشعبية إلى حيازة السلاح النووي، ثم لحقتهما بعد ذلك الهند وباكستان؛ ثم كانت مزاحمته على احتكار السلطة (في إدارة الشؤون والأزمات الدولية) قد شرعت في التحقق منذ بات الاتحاد السوفييتي والصين الشعبية شريكين له في القرار الدولي يتمتعان بمثل ما تتمتع به دوله الكبرى الثلاث من امتياز في النظام الدولي (العضوية الدائمة في مجلس الأمن وحيازة حق النقض)، وها هي مزاحمته على الثروة تقطع الآن شوطاً كبيراً بعد أن فرضت الصين والهند والبرازيل نفسها في النظام الاقتصادي العالمي كجزء من القوى الاقتصادية السبع الكبرى.

 ولا نتزيّد حين نقول إن كسر الجنوب احتكار الغرب للثروة أعظم شأناً من كسر احتكاره للقوة والسلطة لأن احتكاره هذين يتغذى، أساساً، من احتكاره الثروة. ولقد يكفي أن تصبح قوتان امبراطوريتان (مثل بريطانيا وفرنسا) في مرتبة اقتصادية دون مرتبة الهند والبرازيل؛ بل تصير دول الاتحاد الأوروبي مجتمعة دون مرتبة الصين في القوة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية؛ وليس ذلك بالقليل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"