التسليع والاستيلاء على العمل

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

يقال إنّ الطّبيعة ملْكٌ للإنسان، يغتذي منها وتُمِدّه بخيراتها، سواءٌ ما منها ناجزٌ أو ما يستخرجه منها بالعمل. والحقّ أنّه إن جَاز أن يقال ذلك في ما مضى؛ أعني قبل العصر الصّناعيّ، فلم يعُد يمكن أن يقال ذلك اليومَ. نعم، الطّبيعة لم تعُد ملكاً للإنسان؛ هي ملْكٌ للرّأسمال بالأحرى. وحده يُنيخ عليها بكلكله، ويعتصر مواردها لتعظيم الأرباح، ووحده يَحتكر التّصرُّف في ما كان قبل قرونٍ خلَت في حكم المشاع بين النّاس من أشياء.

 من ذا الذي يملك أن يقول، اليوم، إنّ الماء والغِذاء و-ربّما- الهواء (غداً) من المُتاحات الطّبيعيّة للبشر التي تقدّمها الطّبيعة إلى مَن ينتمون إليها من الكائنات الحيّة ومنها الكائن الإنسانيّ؟ لم يعُد شيءٌ من ذلك في الحوزة العمومية بعد أن حوَّلتِ الرّأسماليّةُ مواردَ الطّبيعة من موادَّ للاستهلاك البشريّ المباشر إلى سِلَعٍ تخضع لقوانين السّوق. ما من شيءٍ من أشياء الطّبيعة، في عصر الرّأسمال، خارج ربْقة الرّأسمال والاستثمار والتّسليع. حتّى الإنسان نفسه خضع لسلطان الرّأسمال الذي اشترى قوّة عمله واستحوذ على فائض القيمة، تماماً مثلما خضع للتّسليع فبات سلعةً تنتقل ملكيّتها من مؤسَّسةٍ إلى أخرى ومن شركةٍ إلى شركة، كما يحدث، اليوم، في انتقال لاعبي الكرة من نادٍ رياضيّ إلى آخر بعقود بيْعٍ وشراء!

 في كلّ تاريخ الإنسان، ككائن حيّ طبيعيّ ثمّ اجتماعيّ، كانت حاجاتُه طبيعيّة وموضوعيّة لأنّها في جملة الضّرورات الحيويّة التي لا غنًى له عنها للبقاء. وكان يستطيع، باستمرار، أن يُشْبع حاجاته تلك من مجاله الحيويّ المباشر: الطّبيعة. وحين كان يعسُر عليه وجودها في الطّبيعة، كان يُوجِدُها من خلال العمل؛ تلك الفاعليّة الفذّة التي يحوّل بها عناصر الطّبيعة لمصلحته. والحقّ أنّ العمل المباشر- فرديّاً كان أو جماعيّاً- كان المصْهَر الذي أنجب الإنسان المنتِج في التّاريخ؛ بعد أن عاش، طويلاً، عَالةً على الطّبيعة وخيْراتها أُسوةً بغيره من كائناتها الحيّة.

 لكنّ العمل الإنسانيّ لم يعُد حرّاً منذ ميلاد الرّأسماليّة وفشوِّها في أصقاع الأرض، ولا حاجاتُه الموضوعيّة بات يمكنه إشباعها بالقدر الذي كان يستطيعه قبْلاً، من غير أن نقول إنّ إشباعها اليوم، يقتضيه جَهداً مضاعَفاً وثمناً إنسانيّاً باهظاً. وهكذا؛ من استلابه إلى استغلال قوّة عمله وتكديحه في أقسى الشّروط؛ إلى تحويله من كائنٍ منتِج إلى كائنٍ مستهلك؛ فإلى الاستغناء عن قوّة عمله اليّدويّة والاعتياض عنه بالآلة؛ إلى إعدام وجود العمل الإنسانيّ رمّةً بإحلال الرّوبوت محلَّه، بل إلى موجة زحف الذّكاء الاصطناعيّ.

 كان العمل الإنسانيّ - وهو وسيلة الإنسان الوحيدة لإجابة حاجاته- يتلقّى الضربةَ تلوَ الضربة ويضمحّل وصولاً إلى لحظة الاختفاء.

 ما من شكٍّ في أنّ للعمل مكانةً مفصليّةً في التّطوّر الإنسانيّ. إنّه اللّحظة الانعطافيّة الأعلى في التّعبير عن فاعليَّتيْن إنسانيَّتيْن وتجسيدهما؛ هما العقل والإرادة. إذا كان هذان سابقين للعمل، أسبقيّة أنطولوجيّة ومنطقيّة، وشرطين لازبين له، فهو (العمل) لا يجسّدهما فقط، بل ينمّي طاقتهما فيه كفعاليتيْن، وكلّما وقَع نموٌّ في الإدراك العقليّ أو في الإرادة الإنسانيّة، انعكس ذلك - بالتّبِعَة- على العمل نفسِه فولَجَ أطواراً جديدةً من التّطوّر والتّقدّم بفعل تلك الدّيناميّة الإبداعيّة المتولّدة من امتزاج فاعليّات العقل والإرادة والعمل.

 كان فلاسفةُ الإغريق في جملة مَن عَدُّوا العقلَ خاصّيةً تَفَرَّد بها الإنسان في النّوع الحيوانيّ، وبها انفصل عن محيط نوعه وتكوّنت إنسانيّةُ جنسه. ثمّ أتت مادّيّةُ القرن التّاسع عشر تشدّد على مركزيّة العمل في صُنع إنسانيّة الإنسان وتمييزه عن الدائرة الحيوانيّة؛ لأنّه بالعمل نَقَل عاقليّته من النّظر إلى الفعل، وامتلك مصيره الاجتماعيّ بيده. وهكذا مقابل تعريفٍ دارجٍ للإنسان بما هو حيوان عاقل، انتصب تعريفٌ ثانٍ وبديلٌ له بما هو حيوانٌ عامل ومنتج. غير أنّ هذا الرّوح العمليّ- الإنتاجيّ لدى الإنسان بات يتعرّض للسّلب والمصادرة منذ بدأ الاستيلاءُ الرّأسماليّ عليه، في القرن الثّامن عشر، ومنذُ شُرِعَ في تسليعه و،بالتّالي، في تَشْييئ الإنسان.

 والحقّ أنّ الفكر الإنسانيّ الحرِّ والنّقديّ لم يتوقّف، منذ أربعينات القرن التّاسع عشر، عن التّنبيه على المخاطر التي تقود إليها عمليّات الاستلاب ثمّ الاستغلال والتّشييئ والتّسليع لعمل الإنسان ومنتوجه، التي تصنعها الرّأسماليّة، وإدخاله في قمقم الأرباح والمصالح الخاصّة لفئاتٍ محدودة من المجتمعات، ولو على حساب الرّوح الإنسانيّ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"