حسام ميرو
لاعتبارات عديدة، يصحّ أن نقول إن ولاية الرئيس الأمريكي جو بايدن هي ولاية تحديد السمات الرئيسية للصراع على القرن الواحد والعشرين، ويمكن أن نعدّ زيارته الحالية إلى أوروبا، والتي تسبق وتستبق لقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 16 من الشهر الجاري في جنيف، أنها استعراض وتأكيد سياسيين على قوة وتماسك الحلف الغربي في مواجهة الصين وروسيا، وهي المواجهة التي حدّد الرئيس بايدن هدفها الاستراتيجي ب «التنافس على الفوز بالقرن 21»، حيث أن المقدمات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية للعقد الماضي، توضح بما لا يقبل الشك، أن الصين هي المنافس والخصم الأول لبقاء الولايات المتحدة في صدارة النظام الدولي.
كان القرن العشرون قرن صعود الولايات المتحدة على المسرح العالمي، وتراجع مكانة الإمبراطوريات التقليدية، لكنه أيضاً كان قرن الحروب العالمية، واختراع القنبلة الذرية والصواريخ العابرة للقارات والغواصات النووية والهيمنة العسكرية، وإلى جانب هذا كله كان الصراع الأيديولوجي على أشدّه بين الليبرالية الرأسمالية والشيوعية، وهو الصراع الذي قسّم العالم بين غرب وشرق سياسياً واقتصادياً وقيمياً، واذا كان الصراع بين ممثلي الكتلتين الغربية والشرقية قد انتهى بسقوط الاتحاد السوفييتي من دون أي حرب مباشرة، بل عبر تفكّك الدولة السوفييتية من داخلها، فإن سباق التسلّح العسكري والتكنولوجي كان قد أنهك السوفييت مادياً، وأكلت الأيديولوجيا وتحالفاتها العابرة للقارات الكثير من مواردهم، كما تراجعت وتضاءلت مكانتهم في سوق العمل الدولي، الذي تنظمه أساليب الإنتاج الرأسمالي.
في عام 1978، وهو العام الذي شهد بداية التحول الصيني إلى اقتصاد السوق، كان الناتج القومي للصين حوالي 218 مليون دولار، أقل بعشرة أضعاف من الناتج القومي للولايات المتحدة، وخلال العقود الأربعة الماضية، تمكّنت الصين من الصعود في سلّم التنافس العالمي، إلى أن أصبحت الدولة الثانية عالمياً اقتصادياً، من دون أن تفرّط في مركزية الدولة، ودور الحزب الشيوعي في رسم السياسات، ومن دون أن تتورط في بناء تحالفات على أساس أيديولوحي صرف، وإذا كانت كبريات الاقتصادات قد جعلت من الصين أرض المصنع للمنتجات الرخيصة، فإن هذه المعادلة لم تعد صحيحة كلياً، فقد مضت الصين خطوات كبيرة ورائدة في المنافسة على التطور التقني، خصوصاً في المجالات الرقمية، وهي المجالات التي أصبحت في صدارة الاقتصاد العالمي. بحجم وصل إلى أكثر من 25 تريليون دولار في العام الماضي.
ما يقلق أمريكا والغرب عموماً أن التحول العالمي إلى الاقتصاد الرقمي هو المخاطر الكبيرة التي يتضمنها، فحيازة التقنيات والإمكانات والكفاءات في مجالات الرقمية، تتيح إمكانات شنّ هجمات كبيرة عابرة للدول، ولم يعد التفوّق العسكري كافياً كعنصر وحيد في حسم الصراع بين الخصوم الكبار، خصوصاً أن تشابك العلاقات الاقتصادية والمالية الدولية لم يعد يسمح بحروب كبرى على غرار الحربين العالميتين في القرن الماضي، الأمر الذي يتطلب تطوير أدوات الحرب الرقمية/ السيبرانية، والتي نشطت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ولم تكن أمريكا بمنأى عنها.
الهجمات التي شُنت على مؤسسات وقطاعات حيوية في أمريكا والغرب، كان لبعضها أهداف سياسية محضة، من مثل تضليل الرأي العام، والتدخّل في الانتخابات، بما فيها الانتخابات الرئاسية الأمريكية، حيث وجهت اتهامات لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية عام 2016، التي أوصلت الرئيس الأسبق دونالد ترامب للحكم، كما توجد اتهامات أوروبية لروسيا والصين في قضايا لا تقل أهمية على المستوى السياسي، وهو ما يجعل من استعادة قوة التحالف الغربي عبر ضفتي الأطلسي ضرورة أمريكية وأوروبية مشتركة، بل وملحّة.
مؤخراً، أقرّ مجلس الشيوخ الأمريكي مشروع قانون يقضي بتخصيص 170 مليار دولار أمريكي لأغراض التطوير والبحث العلمي والتكنولوجي، وكان لافتاً تصريح تشاك شومر، زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ، الذي قال: «إذ لم نفعل شيئاً، فقد تنتهي أيامنا كقوى عظمى مهيمنة»، وقد اعتبرت الصين أن هذا التوجه فيه مبالغة أمريكية ب«التهديد الصيني»، وأنه يتضمن «جنون عظمة أمريكي»، وإقرار هذا القانون، قبيل جولة الرئيس بايدن الأوروبية، يوجه رسالة مزدوجة للحلفاء والخصوم معاً، مفادها أن أمريكا لا تزال في موقع الريادة، وأنها تتحمّل التزاماتها تجاه هذا الموقع.
ولئن بات واضحاً أن كسب الصراع على القرن الواحد والعشرين يمر عبر بوابة التفوّق الرقمي، فإن ملامح وخارطة هذا الصراع، ستكون معقدة ومكلفة، لكن ما هو مؤكد أن حسمها لن يكون بالضربة القاضية، بل بالجولات والنقاط.