وقف الحملات الإعلامية قبل وقف النار

00:36 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

هناك ظاهرة تضخيم إعلامية مقلقة جداً تجمع معظم اللبنانيين وحتى أشقائهم في دول الخليج والدول العربية والأجنبية التي تُظهر عطفاً وصبراً ومبادرات وضغوطات لمساعدتهم من الأنفاق المظلمة التي رموا فيها. وما يضاعف من هذا القلق، هو أن العديد من الإعلاميين لا ينتقون من أخبار لبنان والعرب والعالم سوى المصائب والخرائب والهزات. أكاد أجزم، قالت دكتورة في علم النفس العيادي، أن «هذه ظاهرة مرضية سادية مستشرية تستدعى العلاج لكنه العلاج المستحيل». لماذا؟ «لأن حجم الإعلام والإعلاميين وسلطاتهم تجاوزت بكثير قدرة لبنان واللبنانيين عاديين وسياسيين على الاحتمال، فقفزنا جميعاً نحو الإحباط، فالحبوب المهدئة مفقودة وها نحن أسرى حوادث العنف والاعتداءات والفبركات الإعلامية وتضاعف حوادث التشويه والحرق والقتل والإلغاء، لأبسط الأسباب وأتفهها.

لا أمكنة للأسئلة عن وزارة الإعلام أو المجلس الوطني للإعلام المرئي المسموع، ولا عن نقابتي الصحافة والمحررين، ولا حتى عن السلطات القضائية المتلهية بدعاوى الشتم والتحقير ونتف الريش والشرف، المتبادل بين إعلاميات وإعلاميي الأحزاب المتنافرة والمتخاصمة.

أقترح درءاً لما هو آتٍ، المبادرة فوراً إلى ميثاق شرف إعلامي يرعاه الجميع قبل تأليف هذه الحكومة، أو أية حكومة أو مجلس أو برلمان. صحيح أن الرقابة صارت مفروضة ومرفوضة في عصري التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، وصحيح أن مضامين النصوص في الرقابة هو واحد منذ 77 عاماً، لن يتغير شيء في النص سوى أن اسمه كان عهد شرف، وترسخ تحت مسمى ميثاق الشرف الإعلامي ولا صفة قانونية له، وصحيح ثالثاً أن ما بين العهد والميثاق نجد تاريخ لبنان ووثائقه وأدبياته السياسية وحتى دستوره، وكلها مصدرة بجملتين أساسيتين:

وقف الحملات الإعلامية ووقف إطلاق النار أو بالعكس. لن نعثر على وثيقة من وثائق الوفاق الوطني الكثيرة وإنهاء الحروب، إلا ونقرأ في بندها الأول: وقف الحملات الإعلامية أو وقف إطلاق النار!

لن أحسم من هو السباق إلى الدم؟ السيف أم القلم؟ البندقية أم اللسان؟ وهل الصحف والشاشات ومواقع التواصل مواقد اشتعال النيران الفعلي بين السياسيين والطوائف والقبائل أم على العكس؟

هل يقرع اللبنانيون مجدداً أبواب الدم والقتال في ما بينهم عندما يغمس الإعلاميون أزمنة لبنان ولياليه بالاشتعال، وخصوصاً العديد من الإعلاميات وهي ظاهرة غريبة «لكون الأنثى تُقبل على الحياة أكثر منها على العنف والموت خلافاً للرجال»، وفقاً للدكتورة في علم النفس.

لن أذكر بأنه «في البدء كانت الكلمة التي تُحنن وقد تُجنن»، فالكلمة اللبنانية ملتهبة وهي ليست في فراغ أومن فراغ، وهي تذكرنا جميعاً باللجان الأمنية والإعلامية ومواثيق الشرف الإعلامية في لبنان، التي غالباً ما تأتي بعدما تروح الأصابع تتلمس الزناد وتُطلق النيران بسهولة واستخفاف وكأننا في غاب.

ليس الميثاق المطلوب والملح فُسحة لتنظيف البنادق ومتابعة التدريبات في الجبال اللبنانية لا سمح الله؛ بل الإشارة إليه قبل الخراب الذي يُحاك؟ إنه الواجب الوطني المقدس لنزع الخطب والتصريحات والبيانات الصواعق والمقالات والمواد الإعلامية السريعة الملتهبة، إلى الأسباب التي تُرينا أيدي اللبنانيين خوفاً على قلوبهم. الحرب في أسرتنا حيال زجاج شاشاتنا الجارحة والمحقرة، وكأنها تُشعل النيران وتشحن الغرائز لا أنوار العقول والحكمة.

طبعاً هذا الكلام كبير وخطر، لكننا في مرمى الرصاص والدم. لم يعد الإعلام رسولياً بعدما صار الخبر وجهات نظر خلافية كبرى بين الإعلاميين المتهافتين، وقد تسرهم سلطاتهم ولا يسر المواطنين؛ إذ يرتادون القصور السياسية المقفلة على الحوار أكانت في رؤوس القمم أو في أحياء بيروت المقفلة لحسابهم.

يُتابع اللبنانيون البرامج والأخبار، وتكاد لا تنتهي الزوايا التي ينظرون منها إلى قوة الإعلام وخطورته، وكأنه جبل مخيف لا يبلغ قممه سوى الزواحف والنسور. يراه المتسلق مكاناً للمغامرة وتحقيق الذات، ويراه السائح مرتفعاً للتزلج، بينما ينظر إليه الأغنياء مقلعاً للكسارات وللصخور لبناء قصورهم الجميلة، وينظر إليه الفلاحون مخزناً للحرائق والفحم والحطب، وقد يحتمي به في الوقت نفسه، قطاع الطرق واللصوص والفارون من وجه العدالة. هذا الاختلاف في النظرة أمر طبيعي، لكن أن يكون لساننا كل هذا معاً، باسم لحرية والمسؤولية والديمقراطية، وفي إظهار لسلطة الإعلام التي تفوق كل سلطة أخرى، فأمر يثبت بأن لبنان  خلافاً لمعظم الدول الواعية  ما زال ساحة لا يعرف الناظر أو الداخل إليها من أين تبدأ، وإلى أين تنتهي، وما هي حدودها ووظائفها أومخاطرها ومستقبلها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"