المدنية وسؤال تقدّم الدولة

00:34 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

ما زال سؤال تقدّم الدولة عربياً من الأسئلة الإشكالية، فتعثر بناء الدولة في غير مكان في العالم العربي هو ظاهرة مُعنّدة منذ أكثر من قرن، كما أن المطابقة بين مفهوم الدولة بمعناه الحديث وبين الدولة العربية شكلاً ومعنى لا يزال صعباً، ليس فقط لأن إشكالية السياق تلعب دورها هنا، وهي بلا أدنى شك مهمة وضرورية لفهم التباين في تشكّل الدول، بل لأن العرب استخدموا معظم الأيديولوجيات التي أنتجت في القرنين الماضيين، ووظفوها في السياسة والحكم، من دون أن يصلوا إلى نتائج مرضية، وما هو أسوأ تلك الانتكاسات الكبرى التي أصابت بعض الدول العربية، خصوصاً التي تبنّت القومية والاشتراكية، وهما أيديولوجيتان حديثتان، كانتا فعالتين بدرجة كبيرة في أماكن أخرى من العالم، وأدتا وظائف كبرى في التقدم.

  في توصيف سياق الدولة العربية، يغيب التصنيع كعملية أساس في دورة الإنتاج الاقتصادي، فالمصنع بوصفه محدداً لعلاقات الإنتاج في السياق الرأسمالي، بقي دوره ضعيفاً في الحياة العربية، وفي تقرير مستوى العلاقات الاجتماعية وتناقضاتها، وبعد مرور حوالي سبعة عقود على خروج الانتدابات التقليدية من العالم العربي، إلاّ أن دور الإنتاج الصناعي في الناتج القومي بقي هزيلاً، وبقيت الصناعات العربية تدور في فلك قطاعات الإنتاج التحويلية، من دون إحداث أي اختراق نحو صناعات عالية التقنية، كما أن تجربة القطاع العام، وعلى الرغم من أهميتها، تحوّلت في الدول العربية التي تبنّت هذا الاتجاه، إلى جزء من منظومة رأسمالية المحاسيب، حيث ينخر الفساد والزبائنية البنى التشغيلية، وتحويل الكثير من مؤسسات القطاع العام الصناعية إلى خزان لاستيعاب البطالة المقنعة، بهدف تنفيس الاحتقانات الاجتماعية بالدرجة الأولى.

   الدولة العربية، ومن حيث إنها أصبحت تابعة للسلطات، والنخب الحاكمة، والأحزاب القائدة، وما شابه، قطعت الطريق على المجتمع، ومنعته من الاستقلال في تدبير شؤون السوق، فتلك الطبقة الصناعية المدينية التي وجدت، لفترة وجيزة، في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، ما تبقى منها أصبح تابعاً لآليات تحدّدها الدولة، عبر شراكة السلطة والثروة، وهي شراكة تعلو فيها يد السلطة على يد الثروة، وتحدّد لها نطاق عملها، ومجالات استثماراتها، وهو ما أفضى في المحصلة إلى ضبط ومعايرة العلاقات الاجتماعية والسياسية بما يخدم منظومات الحكم السائدة.

  فصل السياسة عن الاقتصاد بشكل تعسفي هو دينامية مضادة لتطور التاريخ الحديث، وقد أظهرت أعتى التجارب وأشدّها قوة واستقطاباً في القرن الماضي أنه يستحيل التقدّم والمنافسة من دون ربط السياسة بالاقتصاد، فالاتحاد السوفييتي، وبعد تجربة امتدت لأكثر من سبعة عقود، أعلن فشله كمنظومة سياسية، إذ لم يعد قادراً على الاستمرار في المنافسة على الأسواق الدولية، وهو يفتقد لديناميات السوق، أو يعلن القطيعة معها، ولا تزال معظم الدول التي انتمت للكتلة الشرقية تعاني لغاية الآن من تبعات هذا الفصل التعسفي بين الاقتصاد والسياسة.

 العلاقة بين اقتصاد السوق والمدينة علاقة جدلية، وكذلك بين السياسة والمدينية، ومن دون هذه العلاقة الجدلية، فإن السياسة تصبح ممارسة متعالية عن الواقع الاجتماعي/ الاقتصادي، ويمكن القول إن ما نعرفه اليوم عن تطور السياق الغربي/ الليبرالي للممارسة السياسية هو إحدى أهم نتائج التمدين كصيرورة، تشتمل على الصناعة وعقلنة الحياة الاجتماعية على مختلف الصعد، ومن ضمنها تطور السياسة كحقل للصراع والتنافس، ولكن أيضاً للتقدّم.

  معظم المدن العربية الكبرى، شهدت بدايات صناعية، وإرهاصات تقدّم مديني، لكن تلك البدايات، وما تضمّنته من إرهاصات، لم تكتب لها الديمومة، وتحوّلت المدن العربية إلى بنى هجينة اجتماعياً، وقد تحدثت دراسات كثيرة عن ظاهرة ترييف المدينة العربية، وفي صلب هذا الترييف تمييع القيم المدنية، من مثل العمل، والإنجاز، والتراكم، والتنافس، والتنظيم، والتعبير عن المصالح المشتركة، وغيرها من القيم التي تميّز المدينة، بوصفها الابنة الشرعية الحديثة لاقتصاد السوق.

    إعادة النظر إلى التقدم، وطرح مشكلاته وإشكالاته في السياقين التاريخي والراهن، وبوصفه تحدياً مستقبلياً مُحدّداً لمدى قوة الدولة في العالم العربي على الصمود، وتأمين استقرارها الاجتماعي، وضمان حدوث تحولات متدرجة، ولكن جذرية، نحو التقدم، يعني إعادة النظر في العلاقة الجدلية بين المدنية والتقدّم، أي رد الاعتبار للديناميات المتعلقة باقتصاد السوق، وما يولّده من ثقافة وقيم، وهو ما يتطلّب حكماً إعادة النظر في مفهوم السياسة نفسه كمحصلة للعلاقات الاقتصادية التي تنتجها المدينة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"