أخلاقيات البحث العلمي وضوابط الأمانة

00:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.إدريس لكريني

إن البحث العلمي هو تراكم إنساني؛ قوامه الاجتهاد والإبداع والإضافة، يقوم على مناهج وضوابط محددة؛ بهدف التوصل إلى نتائج دقيقة، تسهم في حل مشاكل وقضايا المجتمعات.
 وتمثل الجامعات والمؤسسات البحثية فضاءات لتسليح الطلاب والباحثين بالمنهجية العلمية، وبأصول البحث وأخلاقياته، بما يكفل ركوب غمار الكتابة والبحث في مختلف الحقول المعرفية بقدر من الموضوعية والكفاءة.
 تستأثر ضوابط البحث العلمي وأخلاقياته، كما هو الشأن بالنسبة لعدد من المهن والوظائف كالإعلام والمحاماة والطب، بأهمية كبيرة تدعم الجودة في الأداء، وتحقيق الأهداف المتوخاة.
 تحيل أخلاقيات البحث العلمي إلى مجموعة من القيم والمبادئ الإنسانية التي ينبغي على الباحث استحضارها والتحلي بها، والتي تصب في جعل البحث العلمي في خدمة المجتمع، وتلافي كل ما من شأنه الإضرار بمصداقيته وموضوعيته.
 إن الانضباط لهذه الأخلاقيات، هو عامل أساسي لتعزيز جودة البحث العلمي ومصداقية الأبحاث والدراسات والمؤلفات، ولإرساء أخلاق سامية تليق بمكانة العلم والجامعات داخل المجتمع، كما لا تخفى أهمية ذلك على مستوى تشجيع التواصل والتعاون بين الباحثين وطنياً ودولياً.
 وترتبط الأمانة العلمية باعتبارها أحد أهم المظاهر المجسدة لأخلاقيات البحث العلمي، بمدلولين أساسيين يدعمان موضوعية ومصداقية العمل العلمي المبذول، يتصل أولهما بالإشارة إلى مصدر المعطيات والمفاهيم والتعريفات والإحصاءات التي يوظفها الباحث في عمله دون تحريف، فيما يرتبط الثاني، بضرورة الالتزام بإدراج النتائج والخلاصات التي يتوصل إليها الباحث كما هي، ومن دون تحفظ أو زيادة أو نقصان.
 قد يحدث خرق أصول الأمانة العلمية عن جهل بالضوابط العلمية وبالقانون، أو عن قصد وتحايل وسوء تقدير، رغبة في ارتقاء السلالم الإدارية، أو التسرع في الإنجاز، وطلب الشهرة. إن مظاهر المس بضوابط الأمانة العلمية عديدة، ويمكن إجمالها في تغيير وتزوير المعطيات والمفاهيم الأصلية، وعدم الإشارة إلى مصادر المعلومات والإحصاءات المعتمدة، أو الاستناد إلى مراجع غير دقيقة وغير ذات مصداقية.
 وإضافة إلى الأضرار المادية والمعنوية التي تُلحقها هذه الظاهرة بالمؤسسات الجامعية والعلمية وبمصداقيتها، فإنها تعرقل تطور تأليف ونشر وتوزيع الكتب والمجلات؛ حيث تسهم في حرمان الباحثين والكتّاب من حقوقهم المشروعة، وفي قتل مواهبهم في مجالات البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني، كما أنها تكرّس أزمة البحث العلمي، وتمس بتكافؤ الفرص، وتسمح بوصول أشخاص غير أكفاء لمواقع المسؤولية في مختلف المجالات، ما يؤثر بالسلب في تخليق الحياة العامة.
 ثمة مجموعة من الضوابط التي تؤطر أخلاقيات البحث العلمي، وتدعم الإبداع والاجتهاد وتطور المجتمعات بشكل عام، فعلى المستوى الذاتي، يتطلب الأمر توخي الموضوعية، وتلافي المواقف الانفعالية، وإرساء بحوث في خدمة المجتمع، والتحلي بالتواضع العلمي وبثقافة الاعتراف بالجميل، وعدم اقتحام مجالات لا دراية للباحث بها، مع الحرص على طرح النقد البنّاء، وعدم التأثر بالأحكام والأفكار الجاهزة أو ذات الانتشار الشعبي، وتوخي الدقة في طرح أفكار الباحثين الآخرين، وعدم توريطهم في مواقف ليست لهم.
 وينبغي أيضاً استحضار الأبعاد الإنسانية والبيئية عند إنجاز البحوث الميدانية؛ وذلك باحترام كرامة المستجوبين وخصوصيتهم الصحية والدينية والثقافية، وعدم تحريف آرائهم أو التأثير فيها عبر أساليب التحريض أو الترهيب أو التحايل، وعدم تلويث البيئة أو الإضرار بمكوناتها.
 أما على المستوى الموضوعي، فالأمر يتطلب انخراط المؤسسات الجامعية والبحثية في الإشعار بأهمية التحلي بأخلاقيات البحث العلمي في مختلف مراحل تكوين الطالب، ومواجهة السلوكات المخلة بمبادئها، واتخاذ تدابير عقابية في حق أصحابها.
 لم ينل موضوع أخلاقيات البحث العلمي وقضايا الأمانة العلمية بعد الاهتمام الكافي ضمن النقاشات الفكرية والقانونية في المنطقة العربية بشكل عام، وما زالت الكثير من مظاهر المس بأصول الأمانة العلمية وأخلاقيات البحث تندرج ضمن المواضيع المسكوت عنها.
تركز الكثير من التقارير والدراسات على وجود مجموعة من العوامل التي تؤثر بالسلب في وضعية البحث العلمي في المنطقة العربية، والتي تتمحور حول ضعف التمويل من القطاعين العام والخاص، وعدم تحفيز الباحثين، وضعف البنى التحتية اللازمة للاشتغال، إضافة إلى عدم انفتاح صانعي القرار على مخرجاته، ووجود قيود مختلفة تحدّ من هامش الحرية الأكاديمية، وعدم توظيف التكنولوجيا الحديثة بشكل فعّال في هذا الخصوص، ما يدفع بعدد من الباحثين إلى الهجرة بحثاً عن ظروف عمل أفضل. والواقع أن ثمة عاملاً آخر لا يقل أهمية ويتعلق الأمر بتفشي بعض الممارسات التي تمس بأخلاقيات البحث العلمي.
 ومن ثم، فلا يمكن إرساء بحث علمي منفتح ومتطور، يدعم الإبداع والاختراع الكفيلين بالمساهمة في تحقيق تنمية مستدامة تجعل من الإنسان محورها الأساسي، من دون المرور باحترام أخلاقيات البحث العلمي الكفيلة بإنتاج معرفة في مستوى التحديات المطروحة في عالم اليوم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"