مقاربات لا خطية للسوسيولوجيا السياسية

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

منذ نهاية الحرب الباردة في مطلع تسعينات القرن الماضي، ولغاية الآن، فشلت الدول الكبرى، خصوصاً الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، في هيكلة نظام دولي جديد، ولم تفلح النظريات، أو الرغبات في إيجاد توافقات عامة للمصالح الدولية، وتنظيم حدود تلك المصالح في تعريفات وأطر، تسمح بالعمل المشترك لإعادة ترتيب منظومات الأمن والاستقرار الإقليمية. 
وقد شاهدنا نتائج ذلك الفشل في غير مكان من عالمنا، بما فيها منطقة الشرق الأوسط، فلا التدخل الأمريكي في العراق أنتج ثوابت يمكن البناء عليها، كما نَظّر لها تيار المحافظين الجدد، حيث اعتبروا ذلك التدخل (الاحتلال) بمثابة تمهيد الطريق نحو إشاعة الديمقراطية في المنطقة العربية، ولا هو دفع الأنظمة نحو تعديل سلوكها، بحسب أشهر التعبيرات السياسية المستخدمة في الخطاب الخارجي الأمريكي.
 الرؤية الأمريكية لإعادة هيكلة منظومات الأمن والاستقرار، تقوم من ناحية السوسيولوجيا السياسية على مبدأ الرياضيات الخطية التي تفترض أن عالم السياسة محكوم وخاضع لمبدأ السببية المباشرة، والتي تفضي إلى نتائج معلومة، وأن إدراك كمية ونوعية العوامل الداخلة في التفاعل السياسي يسمح باستنتاج كمية ونوعية المخرجات النهائية، وهذه الرؤية، في عمقها، تشكّل تطبيقاً سطحياً لأسس التربية العلمية في شكلها البسيط، لكنها تغفل عن تعقيدات الواقع الاجتماعي الاقتصادي، أو حتى تأثيرات الواقع الجيوسياسي، ففي مثال العراق، افترضت الولايات المتحدة انصياع المحيط الإقليمي لمشروعها، انطلاقاً من افتراض خاطئ حول موازين القوى، وطبيعة ردود الأفعال.
 فشل المقاربة الأمريكية للعراق ليس هو الفشل الوحيد للسياسات الأمريكية التي تأسست على مبدأ الرياضيات الخطية، فبعد عقود من التواجد العسكري الأمريكي في أفغانستان، لم تتمكن واشنطن من تأمين منظومة استقرار لهذا البلد، على الرغم من كل الإمكانات المالية والعسكرية والدبلوماسية التي جنّدتها لأجل مشروعها في أفغانستان، وفي الوقت الذي تستعد فيه أمريكا لسحب ما تبقى من قواتها في أفغانستان، يبدو المشهد الداخلي مقبلاً على موجة جديدة من الاضطرابات والفوضى واحتلال «حركة طالبان» للمدن، وعودة التفجيرات الإرهابية، ما يؤكد فعلياً على فشل المشروع الأمريكي في تأمين الاستقرار والديمقراطية، اللذين وعدت بهما واشنطن المواطنين الأفغان.
 قد تكون مقاربة النموذج الأمريكي في اتكائه على الرياضيات الخطية المقاربة الأسهل نسبياً، نظراً للتمظهرات العديدة لهذا المشروع، لكن ميزة هذا النموذج هو قدرته على الانتشار، والتحوّل إلى سلوك لدى فاعلين آخرين على الساحة الدولية، وبعض هؤلاء الفاعلين قد يكون ذا تأثير إقليمي، أو أقل من إقليمي، كما في بعض الدول صغيرة الشأن في اللعبة الجيوسياسية.
 وحتى منافسو أمريكا الدوليون، لم يسلموا من هذه الرؤية الخطية، بل ربما عملوا بإيحاء من مغرياتها، فعلى سبيل المثال، كان كافياً من وجهة النظر الروسية أن تتدخل قواتها العسكرية في أوكرانيا وسوريا، لضمان مكاسب استراتيجية، لكن هذه الرؤية، في منطقها الخطي، تنتمي من حيث الشكل إلى معادلات القرن التاسع عشر الاستعمارية، لكنها أقل منها قيمة على المستوى النفعي الاقتصادي طويل المدى، كما أنها تفتقد إلى حساب التعقيدات في أوروبا والشرق الأوسط.
 وإذا كان صحيحاً نسبياً أن نهاية الحرب الباردة هي نهاية عصر الاستقطاب الأيديولوجي على المستوى الدولي، فإنها أيضاً، وتحت تأثير صعود عوامل كونية جديدة، أفرزتها ثورتي التقانة والاتصال، هي بداية لعصر جديد، لا يمكن أن تبنى فيه مقاربات السوسيولوجيا السياسية، بما فيها مقاربة العلاقات الدولية، من منظور الرياضيات الخطية، التي تركن إلى الحسابات البسيطة لمعادلة خاضعة لسبب ونتيجة واضحين، أو مدخلات ومخرجات متساوية في الكم والنوع. فتعقيدات العالم المعاصر تفرض على علم الاجتماع السياسي، وعلى صناع القرار، إعادة النظر في كيفية بناء المقاربات السياسية للموضوعات والمصالح والقيم. 
وفي منطقتنا العربية، فإن استمرار الفشل في السياسات، وتعميق إشكالية تجاوز الفوات التاريخي بتمظهراته المتنوعة، يعود بدرجة كبيرة إلى استمرار أنماط تفكير خطية، لم يعد بإمكانها الصمود أمام الكم الهائل للمتغيرات التي طرأت على العالم في صيغه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والتي تحتاج إلى مقاربات لا خطية، تأخذ بالحسبان الحاجة إلى إشراك عدد متنوع من المعارف في بناء المقاربات النظرية والعملية، للإحاطة بأوسع شكل ممكن بالمشكلات أولاً، ومن ثم بناء المعالجات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"