أعظم الأشياء أبسطها

في التفاصيل يكمن الشيطان، لكن من قال إن كل التفاصيل «شيطانية»؟ نحن لا نستطيع أن نحدد درجة قربنا أو بعدنا عن أحد، إلا بالتفاصيل. أذكر ما قالته مرة إحدى أساتذتي في الجامعة بهذا الخصوص، موضحة أن الأمور تعرف بالمقارنات، فأنت لا تستطيع أن تجزم بمدى قربك أو بعدك عن أحدهم، أو مدى رضاك عن شخصيته وطباعه إلا من خلال مقارنته بآخر أو بآخرين تعرفهم، والحَكم في هذه الحال ستكون التفاصيل، فهي من تقول لنا إن المرء بخيل أو كريم، شجاع أو جبان، شهم أو نذل.. إلخ.
في سفره الجميل «داغستان بلدي» يحكي الشاعر الكبير رسول حمزاتوف أن المرء حين يخرج من بيته، يرى في كل مكان حوله، طيوراً كثيرة: السنونو، الغربان، الحمام، عصافير الدوري، على الأرض، في الشجيرات، على الأشجار، أو ترفرف وتطير نحو السماء، بعضها أعلى من بعض، وبين هذه الطيور يبصر في السماء نسراً واحداً. إنه أعلى من الكل وأبعد من الكل، ومع هذا فالإنسان الخارج من البيت لا يرى لأول وهلة إلا النسر، لأنه الأبعد والأعلى، قبل أن تبصر عيناه الدوري الذي يحطّ على الشجيرة على بعد خمس خطوات من الباب.
قد يكون الدوري أكثر دعة ولطفاً من النسر ولكن العين تذهب بعيداً نحو الأخير، متجاهلة ما حولها من طيور أخرى، وما ينطبق على الطيور ينطبق على كائنات وأشياء أخرى جميلة في الطبيعة، وأكثر من ذلك ينطبق على ما حولنا في الحياة، في المجتمع، فالأبصار لا تتوجه إلا نحو ما يعدّ الأهم والأكثر شهرة، والأشدّ نفوذاً، ولا يجري الالتفات لمن لا يحظى بشيء من هذا أو كله، والذي قد يكون أكثر نبلاً ورهافة إنسانية، وإخلاصاً في العمل واستقامة في السلوك.
قال حمزاتوف شيئاً إضافياً وهو يبسط فكرته: «إنك لن تصبح نسراً لمجرد أنك رأيت النسر، والكاتب الذي يكتب عن البطل لا يصبح هو نفسه بطلاً»، بل قد يكون الكاتب أبعد ما يكون عن خصال البطل الذي مجدّه في ما كتب عنه.
إنها التفاصيل مرة أخرى. أن نرى ما هو عظيم في ما يبدو في الظاهر بسيطاً، أن نسبر غور الإنسان العادي جداً في مظهره وفي أسلوب حياته، لنستخرج من داخله درراً من القيم، لم يسع هو نفسه للإفصاح عنها. أليست شخصية «سانشو» في رائعة سرفانتس «دون كيخوت» تضاهي في الأهمية شخصية سيده دون كيخوت، بل قد يتفوق عليه، فهو الأكثر حكمة؟
«أعظم الأشياء أبسطها».. يقول حمزاتوف، «ففي قطرة المطر يمتدّ الطوفان».
[email protected]