الفكر السياسي والأنسنة

00:10 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

تعد مسألة التصنيف واحدة من المشكلات التي واجهت النظريات السياسية عموماً، والعمل السياسي المباشر بشكل خاص؛ حيث تحتاج السياسة إلى مرجعية أيديولوجية مشتقة من فكرها السياسي، ما يجعل من الضرورة بمكان إيجاد عناوين كبرى، من مثل القومية، والاشتراكية، الإسلامية، والليبرالية، واليسار واليمين، والتيار المحافظ، والراديكالي، وغيرها، وتلعب هذه العناوين، أدواراً في الصراع السياسي بين النخب والقوى السياسية، كما تهدف إلى استقطاب الجماهير أو الناخبين. وتتحول هذه التصنيفات في لحظات تاريخية ما، خصوصاً في لحظات الأزمات الوطنية والسياسية إلى عصبيات وهويات؛ حيث تنضوي كتل كبيرة من البشر تحت لواء عنوان سياسي ما، من دون أي تمييز بين العنوان وبين مضامينه التي يحملها في كل حالة على حدة.

 من طبيعة الأيديولوجيا ودورها أن تكون العصب الذي يشد فئات اجتماعية ما إلى بعضها البعض، وأن تجعل لتلك الفئات هوية سياسية، تجد من خلالها معنى لوجودها الاجتماعي، لكن الأيديولوجيا نفسها، وفق التعبير النقدي الماركسي هي وعي زائف بالواقع، وقد مارس عدد من المفكرين الماركسيين في الشرق والغرب نقداً مهماً على الأيديولوجيا الشيوعية في تجربة الاتحاد السوفييتي السابق، أوضحوا حالة الافتراق بين الأيديولوجيا السوفييتية المزعومة وبين المرجعية الماركسية الأم، ولم تكن الأيديولوجيا الشيوعية وحدها من حظيت بمثل تلك المراجعات النقدية الواسعة؛ بل أيضاً القومية، والليبرالية، والاشتراكية، والإسلام السياسي، وأيضاً العولمة، على الرغم من قصر عمرها النسبي.

 كان الفيلسوف الياس مرقص (1927-1991)، قد حذّر العاملين في مجال الفكر ورجال السياسة من أن «تأكل الصفة الموصوف»، فبحسب مرقص إننا عندما نقول فكر اشتراكي، أو قومي، أو ليبرالي، علينا ألا ننسى أن الأساس هو الموصوف أي الفكر، قبل أية لاحقة أخرى، والفكر يعني المنطق والتحليل والاستنتاج والاستدلال، والاشتغال بالمفاهيم، وهذا التحذير في حقيقته نابع من خوف عميق أن تحتل الصفة مكان الموصوف، وأن تتحول بحد ذاتها إلى لفظ أيديولوجي فارغ من أي معنى، وأحياناً إلى نقيضها الأيديولوجي، كما تحوّلت التجربة الاشتراكية في الكثير من الدول إلى رأسمالية المحاسيب الحزبية والنفعية، منقضّة على معناها الفكري والأيديولوجي والنضالي.

 الحد من هيمنة الأيديولوجيا على الفكر السياسي له عدد من المداخل الفكرية، في مقدمتها العقل النقدي الذي يعمل على تفكيك العناوين الكبرى، والبحث عن مدى مطابقة تلك العناوين للواقع، إضافة إلى مسألة المطابقة بين ما تدعيه العناوين الكبرى في سياق محدد وبين ممكنات حواملها السياسية، فعلى سبيل المثال لا يمكن لنخب طائفية أن تبني دولة وطنية جامعة، حتى لو ادعت ذلك، أو رفعته شعاراً؛ حيث يصبح شعار الوطنية في مثل هكذا حالة مجرد شعار للاستهلاك فارغاً من أي مضمون، كما لا يمكن لرجال دولة فاسدين أن يحملوا لواء محاربة الفساد.

لكننا إذا ما حاولنا الهروب من العناوين الكبرى بوصفها معياراً للتمييز بين رؤيتين ونظريتين سياسيتين، أو بين دستورين، أو بين نظامي حكم، فنحن بحاجة إلى معايير قابلة للقياس، يمكن الاحتكام إليها عند قراءة تجربة سياسية ما، أو عند التأسيس لعمل اجتماعي سياسي لتطوير وتنمية المجتمع في جوانبه كافة، وفي هذه الحالة لا يمكن الركون إلى معايير خاصة؛ بل ثمة ضرورة لمعايير عامة، يمكن أن تكون قابلة للتطبيق والقياس في مختلف المجتمعات،

في هذا السياق يبرز مفهوم الأنسنة بوصفه مفهوماً عاماً؛ إذ ينبغي، على سبيل المثال لا الحصر، أن يحترم أي نظام سياسي أو حكومة، بغض النظر عن مرجعيتهما الفكرية والأيديولوجية، مجموعة من الحقوق الفردية؛ بحيث لا يكون بالإمكان تجاوزها، أو شطبها، من مثل حق الملكية الخاصة، وحرية التعبير، والمساواة القانونية أمام القضاء، والحصول على التعليم، والعلاج، والخدمات الأساسية، وتجريم الانتهاكات، وغيرها من الحقوق التي لا تحتمل أي ادعاءات أيديولوجية، أو لا ينبغي أن تكون قابلة للمساومة عليها.

يترتب على مفهوم الأنسنة إعادة النظر بمفاهيم سياسية عديدة، من بينها، أو في مقدمتها مفاهيم الدولة، والحكم، والعقد الاجتماعي، وهي مفاهيم ينبغي أيضاً أن يعاد تعريفها وفق مفهوم الأنسنة ذاته؛ إذ لا يمكن، مثلاً، لدولة الغلبة أن تدعي احترامها الكامل لحقوق الأفراد، وبالتالي فإن الأنسنة تفترض هنا الانتقال من دولة الغلبة إلى الدولة الديمقراطية التعددية، كما من شأن الأنسنة أن تحوّل الحكم إلى مؤسسة خدمة عامة للمواطنين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"