شعب عربي جدير بالحياة

00:42 صباحا
قراءة دقيقتين

زرت تونس ثلاث مرات في مناسبات ثقافية جمعت خلالها العشرات من الشعراء العرب، ومن أهمّها اختيار تونس عاصمة الثقافة العربية في عام 1997، وكانت المدينة العربية الثانية التي تستحق هذا اللقب بعد القاهرة التي حازته عام 1996.
زيارة 1997 لا تُنسى، فلا يُنسى المشهد الأول أبداً، كما لا تنسى الصورة الأولى. وهذه صورة شارع بورقيبة الذي تأوي إلى أشجاره أفواج مليونية من العصافير عند المساء، وسوف يُنبهني إلى الشارع والأشجار والطيور محمود درويش الذي قال: اصغ إلى سيمفونية الطير عند المساء.
شعب طيب وجميل. يحب الشعر ويحب الياسمين، وسيكون مشهداً مألوفاً لك بعد أيام من إقامتك في تونس، وأنت ترى رجلاً يضع عِرْقاً من الياسمين وراء أذنه، ويلعب الورق أو النرد في أحد مقاهي شارع بورقيبة.
شارع بورقيبة ليس مجرّد شارع رئيسي في عاصمة؛ بل هو شريان حياة بمقاهيه العديدة المتجاورة، ومطاعمه وفنادقه، ومحاله التجارية، وأشجاره، وطيوره، ومغنّيه الجوّالين، وشبابه المحبّين للحياة، وامتداده الهادئ، واقترابه الحميم من أسواق القماش والعطور والتحف والحقائب.
التونسي طيب بالفطرة، كريم بالغريزة، يحب الغريب في بلاده، ويساعده، ويُصادقه، ويكرّمه، فكيف إذا كان هذا الغريب شاعراً قادماً من الشرق العربي، جهة الشعر؟
قرأت في تونس شعراً يتألف من قصائد قصيرة تتحدث عن الحياة والصداقة والجمال. كان الجمهور من الشباب التونسي الجامعي في الأغلب. في نهاية الأمسية وجدت الشاعر نفسه وسط دائرة من الشباب، وسوف تأخذه هذه الدائرة الحميمة إلى مدينة ساحلية رائعة هي سوسة. كانت الطريق إليها من تونس «مؤثثة» بحقول الزيتون المترامية الأطراف الخضراء.
أكلت «الكسكسي» في سوسة في بيت أحد الشعراء التوانسة. وفي بحر أسبوع كان التوانسة في يومك، وفي ليلك، وفي قلبك. ناس بسطاء. تلقائيون. يحبّون الفرح والتفاؤل والجمال.
اكتب ذلك وأنا اقرأ الآن أسفل شاشة إحدى الفضائيات العربية تصريحاً لأحد قادة حزب «النهضة» يحرّض فيه أمريكا على عدم إرسال لقاح «كورونا» للتونسيين لكي يموتوا من الوباء.
لا وحشية، ولا أنانية، ولا حقد أشرس من هذا. الشعب التونسي لا يستحق الموت لأنه شعب الحياة، شعب اللطف والمرونة والاستقبال، شعب مثقف، ونقي الروح، وطيب القلب.
انظر كيف تحوّل الأنانية السياسية الإنسان إلى وحش منزوع الضمير يتمنى الموت لأهله. ثم انظر في الوقت نفسه إلى الذاكرة التونسية الثقافية التي أوجدت نوعاً من التميّز أو الامتياز لشعب إنساني مثقف: من أبي القاسم الشابي إلى المنصف الوهايبي. من أحمد اللغماني إلى يوسف رزوقة. من البشير خريف إلى المنصف المزغني. من أبي الحسن القرطاجني إلى محمد الصغير أولاد أحمد، والحلقات الشعرية الثقافية الأدبية الإبداعية التونسية متوالية، ومجددة.
ثقافة، ولطف إنساني، وروح طاهرة.. هذه بعض وصوف التوانسة، فهل شعب كهذا يستحق الشماتة والتحريض؟
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"