العنف وظاهرة الكراهية

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة

الصدام العقائدي، على مر التاريخ، أقوى صدام يقع بين البشر، ولم تُجرَ حروب أشد ضراوة وأعنف أثراً من الحروب الدينية أو الطائفية، وصفحات التاريخ الإنساني القديم والحديث خير شاهد على الصور القاتمة التي خلفتها تلك الحروب، التي لا نظير لها حتى في عالم الحيوان. 

وتظل حقبة القرون الوسطى وما دار فيها من نزاعات دينية ومذهبية تغلفت بطابع القداسة الدينية، وارتُكبت فيها الفظائع والمذابح، وشُحذت الهمم باسم «الحروب المقدسة». وآخر هذه المآسي الهجوم الانتحاري المزدوج الذي نفذه تنظيم «داعش» في مطار كابول في أفغانستان.

ومن يقرأ كتاب «الجهاد» لتوماس هيغهامر، يرى أنه يتحدث عن استحضار المقدس اليقيني، وأحياناً استدعاء نهاية العالم وآخر الزمان، ويشير إلى أن البعد الديني، هو أحد أبعاد الظاهرة الإنسانية، وحضور العنف في المسار الديني. ومما يثبته تاريخ الاجتماع البشري أن التعصب الديني، وما ينضوي تحت لوائه من تعصب مذهبي وعرقي، إذا باضا وأفرخا في مجتمع ما فإنه لا يلبث أن يفلت من عقاله، ليضع الجميع تحت مصائب لا تبقي ولا تذر.

والراصد لتاريخ التعصب الديني سيجد أن ضحاياه، أو جلهم، على الأقل، لا يقعون عادة في مرمى نار التعصب؛ بل هم الأبرياء الذين لا ناقة لهم ولا جمل في الأمر، لكنهم الوقود الذي تُصهر به مواقد الفتنة.

وضحايا التعصب الديني والمذهبي كُثُر، تملأ قصصهم الموجعة آلاف الأسفار. وخلدتها مئات الآثار على مر الأزمان والعصور.

ومن يطلع على مبادئ الإسلام ومقاصده يرى أن الأصل الأصيل في هذا الدين هو احترام النفس البشرية، وصيانتها من المس، أو الإيذاء، أو إيقاع الضرر بها بأي شكل من الأشكال؛ بل وتعدى هذا الأمر إلى الحيوان المستأنس الذي لا يلحق الضرر بالإنسان. وظاهرة الإرهاب التي انتشرت في بقاع متنوعة من العالم لا تنتمي إلى دين سماوي، فالدين، أساسه الفطرة، والفطرة السليمة تبرأ من هذه الأفعال المنحرفة. ومن ثم فإن الإرهاب لا ينتمي إلى جنسية، ولا يمكن نسبته إلى دين أو إلصاقه ببلد من البلدان، وإنما هذه الجرائم المرتكبة نبت شيطاني ليس له جذور في الأرض، ولا يمتد إلى السماء.

إننا اليوم نقف أمام مواجهة فكرية وثقافية صلبة أمام أعمال الإرهاب ومفرزاته، فالعنف يستهدف في الفعل السياسي تطويع إرادة الخير باستخدام الإكراه المادي والنفسي، مما يؤدي إلى نمو ظاهرة التطرف الفكري لدى الأفراد، وهو في حقيقته انعكاس لثقافة الأنا المغلفة بعقلية الانغلاق الفكري والثقافي الذي يُقصي الآخر المختلف دينياً وعرقياً ومذهبياً.

والمتتبع لهذه الظاهرة يكتشف أن جذورها الأكثر عمقاً تتشكل بذرتها في مرحلة التنشئة الأولى البعيدة عن حب الآخرين، لذا فإن على المؤسسات التربوية مسؤولية كبيرة في تنقية اتجاهات التنشئة الفكرية والاجتماعية وبلورة مساراتها، وبالقدر الذي نجد جيلاً طموحاً متطلعاً إلى البناء، متشبثاً بالإبداع العلمي والفكري، وبما يستنهض بالضرورة روح التعايش السلمي، والتسامح الحضاري، باعتبارهما أساساً ومنطلقاً للبناء والنهوض الاجتماعي، لأن التطرف الفكري ثمرة من ثمار الانعزال عن السياق الإنساني، والاجتماعي والثقافي العام في المجتمع البشري.

ومن هنا، فإن أية معالجة للتطرف الفكري يجب أن تبدأ من واقع الأسرة، مهد النشأة الأولى، بالتوازي مع المدرسة والجامعة. مع عدم إهمال الإنتاج الثقافي والإعلامي خاصة في ظل الثورة الرقمية؛ حيث أصبح الجميع قادراً على التأثير في الآخرين في أي مكان في العالم، والتأثر بهم في نفس الوقت. ولذلك يجب تحصين الشباب من الوقوع تحت براثن التطرف الفكري والديني، الذي أصاب بُؤراً كانت منارة الفكر والثقافة في تاريخنا العربي والإسلامي، خاصة في عصور النهضة وحتى عهد قريب. وانتهى الحال إلى تقديم النفس البشرية التي أعزها الله وقدسها قرباناً لهذا السعار الأيديولوجي المعقد والمتشابك.

لذا، وقبل أن يشتد الكرب ويدلهم الخطب، فإن معالجة العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وغيرها من العوامل التي تشترك بصورة مباشرة، أو غير مباشرة في إنتاج ظاهرة الإرهاب في الواقع الاجتماعي، مطلب أخلاقي قبل أن تكون مطلباً وطنياً من أجل حماية المجتمعات المدنية من نفق الحروب العبثية التي تدمر أسس واستقرار الحياة العامة، ولا نجانب الصواب إذا قلنا إن الكثير من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهدها العديد من الدول هي نتاج مباشر أو غير مباشر للتطرف وثمرة للهزيمة والانكسار النفسي، والتخلي كلية عن محاولة استبطان جمال الحياة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"