العدالة الاجتماعية قضية راهنة

01:08 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

منذ أن أطلق مفهوم العدالة الاجتماعية في أربعينات القرن التاسع عشر، أصبح هذا المفهوم موضع سجال متعدد الأوجه، ما زال حاضراً وراهناً بقوة، وتكمن راهنيته في عدم القدرة على تجاوز ضرورته، خصوصاً أنه ارتبط بمجمل مفاهيم علم الاجتماع السياسي؛ إذ لا يخلو أي خطاب سياسي لسلطة أو حكومة أو حزب حاكم أو معارض من هذا المفهوم، بشكل مباشر، أو غير مباشر، والحاجة إلى هذا المفهوم من قبل النخب هي حاجة، في جزء كبير منها، حاجة أيديولوجية بدرجة كبيرة، كما أن استخدامها ليس حكراً على تيار سياسي محدد، فالمصطلح مستخدم، في سياقات مختلفة، في خطاب اليسار واليمين على حد سواء.

ينطوي مفهوم العدالة الاجتماعية من حيث المبدأ على تناقض رئيسي، فمفهوم العدالة هو مفهوم معياري يفترض وجود مبادئ عامة متفق عليها، وأي خرق لهذه المبدأ هو خرق للعدالة نفسها، وهو ما جعل بعض المفكرين يرفضون المفهوم من الأساس؛ إذ اعتبروا أن المفهوم ينطوي على خطأ أساسي، ويعد الاقتصادي والفيلسوف النمساوي فريدريك فون هايك، أبرز ممثلي هذا الاتجاه الرافض لمفهوم العدالة الاجتماعية، وهذا الرفض له ما يبرره من ناحية اقتصاد السوق القائم فعلياً على قدرات السوق في تنظيم نفسه بنفسه، من خلال حدي العرض والطلب، إضافة إلى أن الليبرالية بما تمثله من دفاع عن حق الملكية الفردية، فهي تتناقض من وجهة منظري اليمين الليبرالي مع أي تحويل أو ضبط في حركة السوق، وبالتالي فإن مفهوم العدالة الاجتماعية، من حيث التطبيق، يصبح انتهاكاً لحقوق الملكية الفردية.

التجربة الليبرالية الغربية لم تكن واحدة في التعامل مع مفهوم العدالة الاجتماعية، فحاجات المجتمعات والدول الليبرالية، وسياقها التاريخي، فرض تعاملات متباينة مع هذا المفهوم؛ إذ يوجد تباين كبير وعميق بين تعاطي الليبرالية الأمريكية وبين تعاطي الليبرالية الأوروبية، وتحديداً أوروبا الغربية، مع مفهوم العدالة الاجتماعية، ففي الوقت الذي تتمسك فيه الليبرالية الأمريكية بمبدأ عدم تدخل الدولة في حركة السوق والمجتمع، فإن الليبرالية الأوروبية سعت إلى فرض أشكال من التدخل الحمائي للطبقات الفقيرة والمهمشة، فالتاريخ السياسي الأمريكي مختلف عن السياق الأوروبي؛ حيث عرف الثاني حركات ونضالات سياسية في القرن العشرين، ركّزت بشكل كبير على الحقوق الأساسية للفرد، والتي تضمن له مستوى مقبولاً من حفظ الكرامة الإنسانية، وذلك من خلال إعادة توزيع العائدات الضريبية.

لكن، إذا ما نظرنا خارج السياق الليبرالي الغربي، سنجد أن مفهوم العدالة الاجتماعية يتحوّل أكثر فأكثر إلى شعار أيديولوجي، خصوصاً في الدول التي لم تعرف سياقاً إنتاجياً رأسمالياً، وعلى الرغم من أن الكثير من الدول، تعتمد على برامج خدمية مجانية، في قطاعات رئيسية، خصوصاً في قطاعي التعليم والصحة، لكن حتى هذه البرامج نفسها أصبحت شكلاً من أشكال تأكيد التفاوت الطبقي الحاد بين الشرائح الاجتماعية.

إن مقاربة الصراعات السياسية في المجتمعات بوصفها صراعات طبقية هي مقاربة أساسية راهنة على الدوام، فالصراع على السلطة هو في جوهره صراع مصالح وثروات، وفي قلب هذا الصراع هناك مسألة التفاوت الطبقي؛ حيث تتحول أعداد كبيرة بشكل دائم إلى هامش المجتمع، مع تمركز الثروة والمال بيد قلة قليلة من الأشخاص، وحيث تتحوّل السلطة من نظام إدارة لكل المجتمع، إلى نظام لحماية النخبة صاحبة الثروات، وهو ما يتعارض مع مفاهيم الدولة الحديثة، أي دولة جميع المواطنين، وإذا كانت الدولة الحديثة حيادية تجاه المجتمع في جوانب كثيرة، بمعنى افتقادها لأيديولوجية خاصة، لكن هذه الحيادية لا تنفي، أو لا تعني، التنصّل من الالتزامات.

إن الاضطرابات السياسية الحاصلة اليوم في مناطق عديدة من العالم، بما فيها منطقة الشرق الأوسط، هي نتيجة منطقية لفقدان العدالة الاجتماعية الحاد، وعلى الرغم من بعض المظاهر العامة لتلك الاضطرابات قد لا تكون ذات طابع طبقي/ اجتماعي مباشر، لكن هذا لا ينفي عنها هذا الجوهر؛ بل يمكن القول إن تمظهرات الصراع الطبقي تأخذ أشكالاً متطابقة مع حالة المجتمعات ذاتها، وبالتالي فإن المعالجة السياسية لأسباب الإضرابات ينبغي ألاّ تغفل عن ضرورات تحقيق مستوى مقبول من العدالة الاجتماعية، فاستقرار المجتمعات يتأسس على جملة عوامل رئيسية، في مقدمتها إيجاد ديناميات فعالة للتوازن الطبقي، وتحقيق العدالة، والتي لا تعني إلغاء التفاوت، أو الحد من حركة السوق، لكنها تعني إبقاء المجتمع في حالة من التوازن.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"