من أين نبدأ؟

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

سؤال يواجهنا جميعاً في تفاصيل كثيرة في حياتنا، ربما ينشأ في أول الصباح: كيف نبدأ نهارنا، بأي المهام أو المشاوير نبدأ، وهو سؤال يواجه الطبيب حين يعاين مريضاً، فبأي خطوة من خطوات العلاج يبدأ، ويواجه المعلم في الفصل الدراسي: بأي مدخل يبدأ في تعليم تلاميذه درس اليوم، وعلى هذا قس الكثير.
وإذا عكفنا على مشروع ما، بصرف النظر عن طبيعته، سيواجهنا السؤال المهم: من أين وكيف نبدأ العمل على إنجازه، وسنكتشف، بالتجربة، إن نحن أخطأنا في تحديد البداية الصحيحة فإن الأمور ستتعثر، فلو قفزنا مباشرة إلى الخطوة الثانية أو الثالثة أو ما بعدهما دون أن ننجر «أولاً»، سنجد أنفسنا مضطرين إلى العودة مجدداً، بعد أن أضعنا وقتاً كان بالوسع توفيره فيما هو أجدى وأرسخ.
في كتابه «رأيت رام الله» يقول الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي ما معناه إن هناك حيلة بسيطة لتشويه الحقيقة أو تغييبها هي أن نبدأ في قصّ أي حكاية أو قضية من ثانياً والقفز على أولاً، فبذلك تصبح النتيجة سبباً، ومع أن سياق عبارة مريد هنا مختلف، لكنه، في النهاية، يؤكد أهميّة ومحورية الإجابة الصحيحة على السؤال: من أين نبدأ؟.
وفي مقالة للناقدة المصرية أمينة رشيد التي رحلت عن دنيانا قريباً، نشرتها «أخبار الأدب» بعد رحيلها، حيث لم يسبق لها النشر في حياتها، تناولت كتاباً لإدوارد سعيد لم ينل شهرة واسعة في العالم العربي عن البدايات، وهو معني بصورة أساسية بعلوم اللغة والأدب، لكنه يطرح، حسب أمينة رشيد، عدة تساؤلات متعلقة بماهية البداية: ما الذي يجب على المرء أن يفعله من أجل أن يبدأ، هل يستطيع أن يبدأ في أي وقت يحلو له، ما الذي يميز البداية، ما هما الاستعداد والتركيبة الذهنية لكي تكون هناك بداية، مشيرة إلى أن إدوارد سعيد فرّق بين نقطة البداية والأصل، فالأصل هو حال سكون تنحدر منها البداية التي ترتبط بفعل ديناميكي متطور، مستمر على خط الزمن.
«البدايات» إذن لا تنحصر فقط بالسؤال: من أين أو كيف نبدأ، وإنما بالتحديد، اللاحق بطبيعة الحال، لمتى وكيف كانت البداية، أي أن حين يصبح الموضوع ماضياً أو تاريخاً، وفي هذا يختلف المختلفون كثيراً، وفي تحديد مثل هذه البدايات تدخل الأهواء والأمزجة والميول المتناقضة، وأحياناً تغيب تفاصيل كثيرة عند لحظة التوثيق أو تدوين التاريخ، بطريقة تجعل مما أتى تالياً يصبح أولاً، وليس غريباً أن التفاصيل الغائبة جرى، في حالات كثيرة، تغييبها مع سابق الإصرار والتعمد، وليس سهواً أو جهلاً.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"