هل تستعيد الحرب الإيديولوجيا؟

00:33 صباحا
الصورة
صحيفة الخليج

حسام ميرو

من سمات الحرب أنها بحاجة إلى إيديولوجيا، إذ يصعب على أي طرف أن يشارك في حرب من دون أن تكون لديه سردية يقدّمها لشعبه أو للعالم الخارجي ما وراء الحدود الوطنية، وفي الحرب الدائرة الآن على الأراضي الأوكرانية، ثمة حاجة لدى جميع الأطراف المنخرطة بشكل مباشر أو غير مباشر للاتكاء على سردية ما، تشكّل إطاراً أيديولوجياً، من رؤى وأفكار ومرجعية قانونية، بل وأخلاقية، فالسياسيون والقادة وحتى الجنود بحاجة للإحساس بأنهم ينطلقون في حربهم من موقف أخلاقي، فإطلاق النار يحتاج إلى شرعية، وكذلك فرض العقوبات، والشرعية هنا ينبغي ألا تتشكّل فقط من المصالح العارية، بل تحتاج إلى سند أخلاقي، يجعل من الآخر عدواً، ينبغي تحجيم نفوذه، بل وشطبه من الخارطة إذا تطلّب الأمر.

 في المواقف الرائجة أيديولوجياً في هذه الأوقات المصيرية من تاريخ الكوكب، ثمة محاولة لتصوير الحرب بأنها صراع بين منظومة ديمقراطية/ ليبرالية وبين الشمولية والاستبداد، هذا من جهة الغرب، أما في الإعلام الروسي فهي حرب ضد «النازية» الأوكرانية، ومن ورائها «الرأسمالية المتوحشة»، وهذا الاستدعاء للأيديولوجيا يمكن فهمه على أرضية الحاجة لتبرير المواقف العسكرية والسياسية، لكن هل يمكن فعلاً لأي تبرير أيديولوجي سائد أن يصمد أمام التحليل الاستراتيجي والتاريخي للصراع الدائر الآن بين روسيا والغرب؟

 السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل علة الحرب فعلاً في اختلاف المنظومات الأيديولوجية لأطراف الصراع؟ إن هذا السؤال يحيلنا بالضرورة إلى واقع النظامين الاقتصاديين القائمين في الغرب وروسيا، وهما في الحقيقة ينتميان إلى نظام واحد هو النظام الرأسمالي، مع تفاوت في درجات رسوخ القيم الرأسمالية بين أمريكا وأوروبا وبين روسيا، فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، توجّهت روسيا نحو نظام السوق الرأسمالي، وتخّلت عن آليات النظام الاشتراكي الذي كان سائداً فيها لما يقارب سبعة عقود، وبناءً عليه، فإن الصراع هو صراع بين نمطين من أنماط الرأسمالية، ينتمي كلّ واحدة منهما إلى تاريخ تطوّره الخاص.

 في ثلاثينات القرن الماضي، شهدت أوروبا والعالم صعوداً قوياً للأيديولوجيات، وقد مضت النسخة القومية بصيغتها الألمانية إلى أقصى الراديكالية، في الوقت الذي كانت فيه الأيديولوجيا الشيوعية قد رسّخت مكانتها في الاتحاد السوفييتي، أما الليبرالية فقد كانت في حالة صعود مع تنامي دور الولايات المتحدة عالمياً، وحين تعرّضت النسخة الراديكالية للقومية في أوروبا لانتكاسة مع خسارة ألمانيا للحرب العالمية الثانية، بقيت الساحة العالمية مكاناً لصراع الليبرالية والشيوعية، وذلك طوال فترة الحرب الباردة، إلى أن تفكّك الاتحاد السوفييتي إلى دول، وسارع عدد من دوله للدخول في الاتحاد الأوروبي، مع تحّول كبير في نمط إنتاجه نحو الرأسمالية. 

 أوروبا والعالم اليوم أمام سيناريوهات، لا يقلّ أحدها عن غيره كارثية، فبغضّ النظر عن النتائج العسكرية، وما تمتلكه من أهمية، إلا أن النتائج السياسية ستكون حاسمة في رسم ملامح العالم لعقود، خصوصاً على مستوى النظام الدولي، وعلاقات القوّة في داخله، وبين أطرافه الكبرى والمتوسطة والصغرى، لكن هذه المرّة، وعلى خلاف ما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية، سيكون من الصعب إيجاد تصوّر أيديولوجي متماسك تستند إليه السياسات، بل يمكن القول إنها المرة الأولى التي يشهد فيها العالم مثل هذا الارتباك على صعيد ضعف التبرير الأيديولوجي للحرب.

 قد تكون الأيديولوجيا، في أحد أكثر تعريفاتها شهرة، رؤية غير مطابقة للواقع، لكنها، وعلى الرغم من «زيفها»، قادرة بدرجة كبيرة على خلق توازن ما بين الأطراف المتصارعة، يجعل بالإمكان حدوث تسوية ما، كتلك التي أوجدتها «اتفاقية يالطا» بعد الحرب العالمية الثانية، وأنتجت شكلاً من أشكال السلم العالمي.

 لم يعد الصراع اليوم بين غرب وشرق بالمعاني الأيديولوجية التي تمتلكها هذه الثنائية، بل هو صراع لتحديد مكانة ودور كل طرف في النظام العولمي، وبالتالي تحديد سلّم التراتبية في هذا النظام، ما يجعل من أية محاولة لاستدعاء الأيديولوجيا إلى هذا الصراع بلا أية قيمة من الناحية العملية، بل مجرد عملية تجميل غير متقنة لاستخدام أشكال مختلفة من العنف والعنف المضاد، لكن، ولهذا السبب بالضبط، سيكون على العالم أن يعيد ضبط الساعة الأيديولوجية، وإلا فإن ما سيكون هو مجرد صراعات غير مضبوطة أخلاقياً.

husammiro@gmail.com

عن الكاتب:
إعلامي