هذه هي الانتخابات اللبنانية

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

قد يفهم أحدنا الوجاهة في اصطفاف بعض المرشحين الجدد للبرلمان اللبناني فوق المنابر أمام أسيادهم أو بعيداً منهم، أو أمام رؤساء اللوائح و«جيش الإعلاميين» تأهباً لقراءة برامجهم الانتخابية أو إعلان انسحاباتهم أو عزوفهم لا فرق. ما لا يمكن فهمه وهضمه، هو أن يقف وراء كل مرشح رجل مدني أمني الملامح أو سائق طويل الهامة، حليق الذقن والرأس وفوق عينيه نظارتان سوداوان لا تفارقان وجهه، يتلفّت يميناً ويساراً، والأرجح أنه يجفل من برغشة تطير أمامه. ممّن يخاف ولماذا هذه الحمايات والمظاهر الثقيلة التي تستبدّ بسلوك الطامحين للسلطات في لبنان؟

تجذبني هنا في باريس الحملات الانتخابية لرئاسة الجمهورية الفرنسية بالتهذيب والتواضع والبساطة وتلك الحرية مثلاً في «المغاطس الشعبية» البسيطة. يا للنبل والعدالة والمسؤولية السياسية والإعلام بصفته سلطة الشعب في توزيع الفترات والبرامج الحوارية بالتوازي والتساوي، ولو بالثواني بين المرشحين؟ تغمرك المتعة اللطيفة وأنت تتابع المناظرة التلفزيونية بين ماكرون المعتدل، ولوبان في الجولة الأخيرة للانتخابات الفرنسية.

قد يفهم أحدنا صراع أشقاء الأرحام والأحزاب في الانتخابات اللبنانية؛ إذ يهاجر مرشحون من محافظة إلى أخرى ومن حزب لآخر خلسة بهدف الالتحاق بلائحة مضمونة مهما عظم الثمن نقداً، لكن ما لا يمكن فهمه أن تهمس جدّة مرشح شاب بالحرف: «حفيدي نسخة عن جدّه الذي لم يشبع نيابة.. كان يتمنّى الموت على خروجه من البرلمان. والله تعبنا ولدينا أولاد وأحفاد ومناصب وأعمال وعقارات وثروات في الخارج ونزاعات عائلية، ليتنا نترك النضال لغيرنا وندور في بلاد العالم قبل أن أفارق».

قد يفهم أحدنا معنى السياسيين لأولادنا وبناتنا وحرمانهم الاقتراع قبل بلوغ ال21 القرن 21، لأسباب لا يمكن الدفاع عنها بجملة مفيدة أو برمشة عين، ويمكن للدولة أن ترممها بفتح سفاراتها أمام المهاجرين المشتتين في العالم، ولكن ما لا نفهمه هو: كيف نقنع أحفادنا الذين تجاوزوا آباءهم وأجدادهم بذكائهم وحضورهم ونجاحاتهم وحرياتهم وهم يديرون المؤسسات الشبابية الريادية بعد نضجهم المبكر في وسائل الاتصال، بأنهم لم ينضجوا كفاية ليختاروا ممثليهم إلى البرلمان؟

قد يفهم أحدنا أيضاً ترضية خواطر المرشحين المنسحبين خوفاً أو تهديداً أو رشوة أو وعداً بمنصب مقبل، وقد نسمع حتى عن تدخّل دول العالم في الانتخابات، لكننا لا نفهم تدخّل دول لضمّ مرشح وفرضه على إحدى اللوائح؟

قد يفهم أحدنا توزيع «بونات» البنزين والمازوت والإعاشات وأجهزة الخلوي وقصص الملايين الخيالية التي توزّع نقداً وبالعملات الصعبة على معظم اللبنانيين الفقراء، لكننا لا نفهم إطلاقاً كيف أن بعض الأحزاب واللوائح قد تجاوزت كل سقوف الإنفاق الانتخابي المالي المسموح به قانوناً، إلى حدود خيالية عبر خطب ومقابلات حافلة بالكراهية والمذهبية، كما أننا نشعر بعجزنا حيال السلطات الإعلامية التي تجاوزت كل مفاهيم السلطات الأخرى في لبنان والعالم.

قد نفهم حضور الهيئات الأجنبية لمراقبة الانتخابات في لبنان وأفرادها يتكلمون الإسبانية والإنجليزية والفرنسية، ولكننا لا نفهم كيف يعمل معهم لبنانيون مترجمين أو مستشارين سوى الحظوة بالدولار فريش.

اختصرها وزير سابق بالقول: «الناس تبحث فقط عن المال.. وهناك مرشحون يدفعون ملايين الدولارات ليكونوا في لائحة، والصناديق جاهزة توزّع عبرها الأموال بدقة ورقابة وسلطة وعلى عينك يا تاجر». وإذا كان الوزير قد شتم السياسة الانتخابية في لبنان، فإن الصحافة المتنافسة شتمت دون أن تدري هذه الأسواق المفتوحة، ونحن سنبقى نشحذ أصابعنا وأقلامنا ونصوصنا بحثاً عن حرية الصحافة، وصون رسالتها الأخلاقية والوطنية. ولا أظن أحداً يقرأ وفوق مكتبه تقارير يومية بواقع المال السياسي الانتخابي أكثر من معظم السادة التقليديين المرشحين. نحن في بلد الضوء سيدي، ولو صحّ غبار ما سمعناه ونسمعه من تفاصيل وقصص عن الصناديق الكرتونية الطافحة بالأوراق الخضراء لذهلنا، مع أن جمهرة من الناس يطبخون أطباق الحصى المكسّرة في عالم يستغرق بالرياء والغباء والرذيلة وتعاظم الفساد.

ليس لهذا الحبر سوى تطمين أهلنا العرب الذين يعشقون مناخاتنا وبلادنا وهم يتأهبون إلينا بكلمتين: لكم الحق بعدما تغيّرت أطباقنا وقد شارفنا المواسم الأخيرة المهتزّة من الانتخابات في لبنان؛ لأن الأطباق كثيرة ومتنوعة من محافظة إلى أخرى، وكانت تحلم بالتغيير، لكن حسابات الحقول تبدو غيرها في حسابات البيادر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"