مستقبل مصادرالإلهام الشعري

00:38 صباحا
قراءة دقيقتين

أليس للإلهام بيئة وهوية؟ أجل، له مكان وزمان، تاريخ وجغرافيا، خلفيات ثقافية متراكبة متراكمة، منظومات قيم عقدية وجمالية وأشياء أخرى. منذ بزغت شمس الشعر في آفاق القرائح، والإلهام هكذا يلوح في الواجهة فرداً، وهو في الكواليس حشد من القوى العاملة في مصنع الشعر. لهذا نرى أشعار الأمم والشعوب متباينة الأجواء والأنواء والأهواء، من القطبين إلى خط الاستواء.
عن المسافات الجغرافية الشاسعة بين البلدان واللغات، لا تسأل، فتلك تنقلك من عوالم إلى عوالم. أين الجبال من البحار من الصحارى من الغابات؟ قصة علي بين الجهم (القلم يراها مصنوعة بتكلف احترافي فائق)، تحاول إقناعنا بأن الشاعر يشبه الروبوت الذي تغير برمجته ببرمجية مختلفة. هذا الشاعر مدح المتوكل بقوله: «أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوبِ»، فأسكنه الخليفة إلى جوار دجلة، فعاش في بغداد ليالي الأنس في فيينا، وبعد ستة أشهر دعاه المتوكل، فكان مطلع المديح: «عيون المها بين الرصافة والجسرِ.. جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري»، فقال الخليفة: «أدخلناك القصر لترقّ فذبت».
اختلافات بيئات الإلهام في مختلف البلدان تنجم عنها فوارق كبيرة شتى. لكن الاستثناءات قائمة. تأمل الفوارق في الجغرافيا الطبيعية، بين الجزيرة العربية والأندلس، إنها هائلة، لكن الشعر الأندلسي لا ترى فيه انفصالاً كلياً في البيئة الذهنية والخصائص الشعرية ومصادر الإلهام، عمّا كان في بغداد تلك القرون. بل إن الشعر العربي في نسبته الغالبة، ظل حتى عصرنا ملتزماً قوالب الشكل وبرمجة المضمون (مثلاً: المطلع الغزلي حتى في الهجاء).
خلافاً لقصة علي بن الجهم وانقلابه على قريحته في ستة أشهر، نرى أن القوالب الشكلية والمضمونية، في الشعر الجاهلي، ظلت حتى العقود الأولى من القرن العشرين، كأنها تشريعات مختومة على جبهة الشعر العربي، بلغة طرفة «تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ»، أو بلسان المتنبي: «أعز امحاء من خطوط الرواجبِ» (خطوط الأصابع). فما الجديد في الأفق؟ بيئة المصادر الإلهامية، ولا شك، ستكون مختلفة بعد جيل، فبعد جيلين ستكون آثار العلوم والتقانات كبيرة جداً في صور الخيال، لأن عالم الغد سائر نحو الافتراق في الكثير من الجوانب، عن الماضي، خصوصاً لدى الذين لا يصنعون مستقبلهم بأنفسهم.
لزوم ما يلزم: النتيجة البحثية: يستطيع الشعراء اليوم والنقاد، أن يجدوا مادة غزيرة للدراسات، في العلماء الشعراء.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"