عادي
مشهدية ترفض العنف والدمار

«جورنيكا».. الفن دعوة للسلام تناهض الحرب

22:46 مساء
قراءة 4 دقائق
10

الشارقة: علاء الدين محمود

يعتبر الفنان الإسباني بابلو بيكاسو (1881 1973)، من أشهر الرسامين الذين عرفهم التاريخ، وينسب إليه الفضل في تأسيس الحركة التكعيبية وتطوير الرمزية والسوريالية، وإضافة إلى كونه تشكيلياً فهو شاعر ونحات وبارع في مجال الخزف، ويعتبر من أكثر الفنانين بحثاً عن الابتكار، فالفن بالنسبة لبيكاسو يرصد ويؤرخ ويبحث عن الحقائق، ومن أشهر مقولاته: «الفن هو الكذبة التي تجعلنا نكتشف الحقائق».

لوحة «جورنيكا»، تعد من أشهر أعمال بيكاسو الفنية وهي عبارة عن جدارية نفذها الفنان خلال الحرب الأهلية الإسبانية، بإيحاء وإلهام من يوميات المعارك حين قامت طائرة حربية ألمانية وإيطالية مساندة لقوات القوميين الإسبان بقصف وتفجير قرية جورنيكا الواقعة في إقليم الباسك عام 1937 بغرض الترويع خلال الحرب الأهلية الإسبانية، وكانت مأهولة بالنساء والأطفال فقط؛ لأن غالبية رجال تلك القرية كانوا غائبين ومنشغلين بالقتال، فانعكست هذه الصورة المرعبة على شخصيات اللوحة، وكانت حكومة الجمهورية الإسبانية الثانية التي استمرت في الفترة بين 1931و1939 قد كلفت بيكاسو بإبداع لوحة جدارية عن تلك المأساة لتعرض في الجناح الإسباني في المعرض الدولي للتقنيات والفنون في الحياة المعاصرة في باريس، وقد استغرق بيكاسو في إنجاز اللوحة مدة تتراوح بين 6 و7 أسابيع، وهي موجودة اليوم في متحف الملكة «صوفيا» المركزي الوطني للفنون في مدينة مدريد، وجعل منها بيكاسو رمزاً ومعلماً تذكارياً للألم والمعاناة في ظل العيش تحت ظلال الحروب، وهي في ذات الوقت تجسد معاني السلام وتدعو إليه، وبعد الانتهاء منها طافت اللوحة في جولة عالمية موجزة العالم لتصبح من اللوحات الأكثر شهرة كما أن جولتها تلك أسهمت في لفت أنظار العالم للحرب الأهلية الإسبانية.

تفاصيل العمل

فضاء اللوحة هو عبارة عن مشهد داخل غرفة؛ حيث يقبع على اليسار ثور ضخم واسع العين فوق امرأة حزينة تحمل طفلاً ميتاً بين ذراعيها، وفي وسط الغرفة نجد حصاناً يتلوى من الألم بسبب طعنة رمح مع وجود فجوة كبيرة في جانبه، ويتمدد تحت الحصان جندي ميت ويده التابعة لذراعه اليمنى المقطوعة تحمل سيفاً مُحطماً، في ما يظهر أعلى الحصان من جهة اليمين امرأة خائفة، تراقب المشهد من خلال نافذة وبيدها مصباح مُضاء باللهب، أما الخناجر التي توحي بالصراخ فهي بصورة رمزية تعبيرية قد حلّت محل ألسنة الحصان والثور والمرأة الحزينة.

والواضح أن اللوحة جاءت محتشدة بالرموز والعلامات والدلالات، التي لا يمكن قراءة العمل إلا عبر الالمام بمدلولاتها، غير أن النقاد اختلفوا في تفسير العمل، فالثور والحصان هما من الرموز الإسبانية الحاضرة بقوة في العديد من الأعمال الفنية والأدبية؛ حيث ترى إحدى أكبر المؤرخات في مجال الفن باتريشيا فيلينج أن توظيف الثور والحصان جاء باعتبارهما كائنات مهمة في الثقافة الإسبانية؛ حيث إن بيكاسو نفسه قد استخدمهما في السابق من أجل أداء الكثير من الأدوار المختلفة خلال مسيرته الفنية، وتشير فيلينج إلى أن ذلك يجعل من تفسير المعنى الحقيقي للثور والحصان مهمة صعبة للغاية، غير أن اللوحة بصورة عامة ترمز إلى البؤس والألم.

نفذ بيكاسو اللوحة بالطريقة التكعيبية التي عرف بها؛ حيث تبدو من النظرة الأولى عبارة عن كتلة ملتبسة من الأجساد المتداخلة، لكن مع النظر إلى اللوحة أكثر من مرة، يكتشف المشاهد أن هنالك شخصيات محددة تصرخ من الألم، ومشهد من الرعب والهلع منظم بصورة مركزة ومقسمة إلى ثلاثة أقسام منفصلة مثبتة في الوسط بشكل مثلث ورمح من الضوء، وقد ذكر بيكاسو أن مشهدية اللوحة تتغير مع تغير أفكار المرء بحسب الحالة الذهنية التي ينظر بها إلى العمل.

أسلوب وأدوات

تنتمي اللوحة بالفعل إلى فكر وأسلوبية بيكاسو الذي ظل ينشد الحقيقة واكتشاف العالم وتسجيل موقف من الحياة والوجود من خلال أعماله الفنية بصورة رمزية وسوريالية، ومن الطرائف أن أحد الضباط الألمان قد سأل بيكاسو، عندما رأى جداريّة جورنيكا في شقته: «هل فعلت ذلك فعلاً؟ فأجاب بيكاسو: لا، بل أنتَ من فعل ذلك»، والإجابة بطبيعة الحال تحمل دلالات عميقة؛ إذ إن المتسبب في الحرب هو رسم تلك اللوحة، وذلك يشير إلى خطل النقد اليساري الذي وجه حينها للعمل من أنه جاء خالياً من الالتزام الفكري والأيديولوجي، فالحمولة السياسية تبدو واضحة، لكن بيكاسو، باعتباره فناناً يربأ بنفسه عن المباشرة والواقعية الفجة، قد مرر تلك الحمولة عبر الرمز وتوظيف الألوان والكائنات انتصاراً للفن والجمال.

اختلاف الآراء

من الطرائف والمفارقات، أن اللوحة عندما عرضت في باريس عام 1937 ضمن الجناح الإسباني في المعرض السابق الإشارة إليه، كان لألمانيا النازية حينها وروسيا السوفييتية أجنحة في المعرض نفسه، لذلك اختلفت الآراء حول اللوحة بدوافع فنية وسياسية معاً، فبعض الإسبان اعترضوا على الأسلوبية الحداثوية في العمل، بينما انتقدت مجموعات يسارية اللوحة بحجة أنها لا تعبر عن التزام سياسي، ولا تقدم رؤية للمستقبل، مما اضطر ماكس أوب، أحد المسؤولين عن الجناح الإسباني، إلى الدفاع عن العمل؛ إذ إن الحكومة الإسبانية في ذاك الوقت كانت قد اهتمت باللوحة اهتماماً فائقاً ونظمت جولات في أوروبا وأمريكا الشمالية من أجل عرضها وجذب الانتباه إليها ورفع الوعي بالتهديد الفاشي حول العالم.

ألوان قاتمة

عمل بيكاسو على إظهار اللوحة بالألوان الأبيض والأسود والرمادي والأزرق الداكن، بدافع إبراز الألم والقتامة والقسوة، بأسلوب التصوير الزيتي، ويبلغ طول تلك اللوحة 3.5 أمتار وعرض 7.8 أمتار، وقد حرص الفنان على رسمها بالألوان القاتمة بأكبر قدر ممكن حتى تتمثل اللحظة وتعبر عن المأساة بصورة مثالية، وقد ساعد الفنان الأمريكي جون فيرين على بعض الجوانب التقنية للوحة الضخمة، وساعدت أيضاً المصوّرة دورا مار، التي عملت مع بيكاسو منذ منتصف عام 1936 في الاستوديو الخاص به وتعليمه تقنية التصوير الفوتوغرافي؛ بهدف توثيق خطوات رسم هذه اللوحة، وقد اعترف بيكاسو، والذي نادراً ما يسمح للغرباء بمشاهدته يعمل في الاستوديو، بالتأثير الإيجابي للزوار الذين راقبوا تقدمه في لوحة جورنيكا إيماناً منه بأن ذلك سيساعد على دعم القضية المناهضة للفاشية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"