عادي

دوائر الاستبعاد

23:43 مساء
قراءة 5 دقائق

القاهرة: مدحت صفوت
في ظلّ الأزمة الثقافية عامة، والمرتبطة بالنقد الأدبي خاصة، يبدو السؤال عما يقدمه النقد في عموميته «مشروعاً»، وداخل هذه الأزمة إشكالية ثانوية تخص الحضور النسائي في المجال النقدي.

ورغم مشروعية التساؤل عن دور النقد، فإن طرح سؤال: ماذا قدمت المرأة العربية في النقد؟ يحمل في بطانته اتهاماً مسبقاً بالتقصير النسوي من جهة، كما يتضمن أدوات استبعاد المرأة من الكتابة النقدية من جهة ثانية، ما يجعل منه -أحيانًا- سؤالًا غير بريء.

والحديث عن معرفة العرب ظاهرة «المرأة الناقدة» في بداية تاريخ الشعر العربي، عصر ما قبل الإسلام، هو نوع من «التجمل»، سعياً وراء تأصيل ظاهرة حديثة زمنياً، وكمحاولة لمنح التاريخ «صيغة تقدمية».

يحاول أصحاب الرأي القائل بالظاهرة في تاريخ العرب، انتزاع «نتف الروايات» المشيرة إلى نوع ما من الممارسة النقدية للنساء، حتى لو كانت بدائية وانطباعية وتقوم على تمييز الجيد من الرديء، بدءاً من «أم جندب» زوجة امرئ القيس، مروراً ب«عقيلة بنت عقيل بن أبي طالب»، و«أم جحدر بنت حسان المرية»، و«سكينة بنت الحسين بن علي»، التي قال عنها أبو فرج الأصفهاني «كانت عفيفة تجالس الأجلّة من قريش وتجمع إليها الشعراء»، وهي التي توقفت مؤخراً أمام أحاديثها الناقدة السعودية سعاد المانع بالدراسة، وانتهاء ب«ولادة بنت المستكفي» الأميرة الأندلسية الشهيرة.

ويكشف الواقع التاريخي عن اختفاء الظاهرة من تاريخ البشرية، ربما لسيادة النزعات الذكورية حتى منتصف القرن العشرين، قبل أن تتجلى النسوية كحركات احتجاجية، وكنتاج لتاريخ طويل من نضال المرأة في انتزاع الحقوق ودخول المجالات الإبداعية المختلفة.

بالتالي، القول بقدم ظاهرة «المرأة الناقدة» نوع من الخداع، وعلينا أن نراجع موقف ناقدين عربيين كبيرين قديمين، هما ابن سلام وابن رشيق القيراوني، في تعريفهما للناقد، وقولهما إنه «الرجل» المميز بين الجيد والرديء، والخبير بالبيان القادر على التعرف إلى بواطنه، فضلاً عن رفض العرب ظاهرة «المرأة الشاعرة»، وهنا يحضر المثل السائر «إذا صاحت الدجاجة صياح الديك، فلتُذبح»، الذي يقال إن الفرزدق رّدده في امرأة قالت شعراً.

مشوار طويل

وعالمياً، تمثل الثورة الفرنسية نقطة تحول في توسيع نطاق حقوق المواطنين لتشمل النساء، كذلك نقطة تحول حاسمة في الجدل الأوروبي حول «الجندر»، وطرح موضوعات تخص النوع، والجسد، والروح، والإبداع والأنثوية، كموجة تصحيح أمام ميراث من الكراهية الغربية لأي دور نسائي في ممارسة الإبداع عموماً، والنقد على وجه التحديد.

وفي بريطانيا، تضمن التقليد الشائع نقد النساء أنفسهن، وقد يرتقي لكراهية واضحة حيال زميلاتهن اللواتي يكتبن أو يتطلعن إلى دور عام كناقدات ثقافيات، وفي فرنسا، تميل مناقشات «النوع الاجتماعي»، التي بدأت مع الفيلسوف جان جاك روسو، إلى التأكيد على الوضع الإشكالي لما يسمى ب«دور العاطفة في اختيارات النساء».

وظلّ الوضع كذلك، حتى تصدرت النساء المشهدي النقدي، وأصبح ليس بمقدور أحد استبعاد العديد منهن، خاصة جوليا كريستيفا وسوزان برنار. وطوال هذا المشوار نتذكر تعليق الناقدة اللبنانية يمنى العيد: «طويلة هي المسافة، وشرط الكتابة يبقى تاريخاً، ولأننا جميعاً معنيون بهذا التاريخ، أرى أنه إن كان ثمة من تفاوت فظيع أحياناً، بين ما هو متوفر للرجل، وما هو متوفر للمرأة في انصراف كل منهما إلى ممارسة الكتابة، أو الإبداع في مجال من مجالات الفنون، فان ثمة تفاوتاً أفظع بين رجل ورجل في نظرة كل منهما إلى حق المرأة في الحياة والإبداع، إن الحد الذي يقوم عليه شرط الكتابة والإبداع ليس بين المرأة والرجل، أو بين الأنوثة والذكورة، بل هو بين الجهل والعلم، بين الاستبداد والحرية، وعلى هذا تصبح المسألة لا مسألة المرأة والإبداع، بل مسألة الإنسان العربي والإبداع».

تاريخ

ومع القرن العشرين، دخلت المرأة المجال المحظور عليها لقرون، وتعددت الأسماء التي قدمت إسهاماً ثقافياً ونقدياً، مثل ميّ زيادة ومقالاتها الاجتماعية والمحاولات النقدية، وملك حفني ناصف، وماري عجمي مؤسسة مجلة «العروس» السورية. وربما اكتسبت المرأة الشامية مكانة أدبية في بدايات القرن أفضل من بقية نساء العرب نسبياً، لتبرز أسماء سلمى صائغ مؤلفة «ذكريات وصور»، وأنجال عون شليطا، وسلوى سلامه أطلس.

ومثلما تعد الناقدة المصرية سهير القلماوي مرحلة مفصلية في علاقة النساء بالنقد الأكاديمي، لكونها أول فتاة مصرية تحصل على الماجستير حول «أدب الخوارج في العصر الأموي»، فإن نازك الملائكة يمكن اعتبارها «أول ناقدة عربية» بالتعريف الحديث، إذ توقفت بالدراسة أمام كتابات مسرحية وروائية وشعرية وقصصية، وقرأت نقدياً نصوص أحمد شوقي، وتوفيق الحكيم، وإيليا أبوماضي، وجان بول سارتر، وابن الفارض، ونجيب محفوظ، وأرنست همنجواي، وسهيل إدريس.

وتزامناً مع نازك، تأتي ريتا عوض وكتابتها عن «بنية القصيدة الجاهلية»، والوقوف عند الصورة في شعر امرئ القيس، مبتعدة عن الأساليب التقليدية، وساعية وراء إرساء منهج جديد في دراسة الشعر القديم.

وبشأن الأجيال اللاحقة للقلماوي، نعتقد أنه لا أحد ينافس الأكاديمية اللبنانية يمنى العيد في الشهرة والحضور النقدي، التي نعتبرها عقلية نقدية «ناقدة»، عرفت كيف تستفيد من تجارب الآخرين، طوال مسيرتها النقدية التي تمتد نحو نصف قرن، فهي المُدربة على إعادة إنتاج الوافد داخل الحقل الثقافي العربي في ضوء ما تمتاز به النصوص من تميّز في الخطاب، وخصوصيّة في الحكاية.

وتأتي بعد العيد، مواطنتها خالدة سعيد، وكتاباتها المؤسسة «البحث عن الجذور» و«حركية الإبداع»، الكتابان اللذان مثلا خطوة تأسيسية رائدة، ونقلة نوعية في المنهج، واللجوء إلى معالجة النص بوصفه نظاماً مترابطاً من الدلالات، حد معطيات المنهج البنيوي.

وعلى ذكر الدراسات التطبيقية البنيوية، فلعلنا لا نغفل دراسة الناقدة المصرية سيزا قاسم «بناء الرواية.. دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ»، وهي في الأصل رسالتها «الواقعية الفرنسية والرواية العربية في مصر من عام 1945 حتى 1960»، وتقدمت بها في 1972 لنيل درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة.

بطاقات هوية

ومع الوقت تنمو دائرة المرأة الناقدة وتتسع الرقعة الجغرافية لتشمل العالم العربي برمته، وتتعدد الأسماء مع اختلاف الأجيال أمثال: رضوى عاشور، وفريدة النقاش، وسلمى الخضراء الجيوسي، وأمينة رشيد، وأمينة العدوان، ونبيلة إبراهيم، وفريال جبوري غزول، واعتدال عثمان، ونجوى الرياحي القسنطيني، وفاطمة المرنيسي، وعواطف عبد الكريم، وثناء أنس الوجود، وزينب الياسي، وهدى عطية، وأماني فؤاد، ومروة مختار، وغيرهن.

ومع هذا الحضور، فإننا نلاحظ بعض الممارسات التي تقع ضمن «دوائر استبعاد النساء» من المجال الثقافي، خاصة النقدي، وأولى هذه الدوائر تتمثل في تعريف الناقدات العرب بألقاب لا تخص النقد، كأن يقدم أحدهم رضوى عاشور ب«الروائية»، وهو تعريف يخصها، لكن تعمد استخدامه من دون غيره قد يحمل قدراً من استبعاد عاشور من «زُمرة النقاد»، ولا يعد مجرد تعريف، بقدر ما يشار إليه بوصفه «بطاقة هوية» تحدد المهمة الثقافية لصاحبتها.

الأمر ذاته يتكرر مع أخريات قدمن إسهامات مهمة في مجال النقد، خاصة دراسات ما بعد الحداثة، فنلاحظ تعمد تقديم الناقدة الفلسطينية أماني أبو رحمة ب«المترجمة»، ومع تقديرنا للترجمة، يصور الأمر وكأنها مجرد مترجمة، كذلك يغفل البعض عطاء كل من فاطمة قنديل، وهويدا صالح، في ظل محاولات تأطيرهما كون الأولى «شاعرة»، والثانية «روائية»، فحسب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"