المغرب وتجربة «مصالحة» ضد الإرهاب

00:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

أ.د. إدريس لكريني

أصبح التطرف والإرهاب من بين أكبر المعضلات التي تواجه دول العالم، بالنظر إلى انعكاساتهما على السلم والأمن الدوليين، فعلى الرغم من الجهود الوطنية والدولية المبذولة لمكافحة الظاهرتين، فإن خطرهما مازال قائماً بالنظر إلى تزايد عدد الجماعات المسلحة التي تتبنّى العنف لتحقيق أهدافها، وانتشارها على امتداد مناطق مختلفة من العالم.
لقد طوّرت هذه الجماعات أساليب عملها مستثمرة في ذلك تطور وسائل الاتصال الحديثة وشبكة الإنترنت، كما استغلت عدداً من بؤر التوتر المنتشرة على امتداد مناطق مختلفة من العالم من أجل بلورة وتنفيذ مخططاتها، واستقطاب عدد من الأعضاء الجدد لصفوفها.
إن تنامي المخاطر والتهديدات التي يخلّفها الإرهاب، يطرح أكثر من سؤال حول سبل المواجهة، ومدى نجاعة التدابير المبذولة في السياقات الوطنية والدولية؛ ذلك أنه منذ أحداث 11 من سبتمبر عام 2001 التي شكّلت محطة صعبة وغير مسبوقة أبرزت حجم الخطورة التي أصبح يشكلها الإرهاب على السلم والأمن الدوليين، حيث قامت الولايات المتحدة باعتماد مجموعة من التدابير والإجراءات، فيما تم إصدار عدد من القرارات من داخل مجلس الأمن حول الموضوع، علاوة على عقد كثير من المعاهدات والاتفاقيات واللقاءات على المستويات الإقليمية والدولية التي تروم تضييق الخناق على الإرهاب.
غير أن ذلك لم يكن بالنجاعة المطلوبة، حيث استمر الإرهاب في الانتشار، ويبدو أن السبب يعود  في جزء كبير منه  إلى وجود قصور على مستوى مواجهة الظاهرة، فقد طغت المقاربة الزجرية والبعدية، والواقع أن مكافحة الإرهاب والتطرف تقتضي إرساء سبل استراتيجية مستدامة تقف على مختلف العوامل المغذية للظاهرة، قبل معالجتها بصورة شمولية، تتدرج بين الطرق الوقائية والزجرية.
لا يمكن إنكار المبادرات المهمة التي اتخذتها العديد من الدول في هذا الخصوص، والتي كان لها الأثر الكبير في الحدّ من خطر هذه الآفة التي لم تستثن أي دولة أو مجتمع. وقد استأثر التعامل مع الجوانب النفسية والتربوية للإرهاب والتطرف، بأهمية كبيرة ضمن المداخل التي اعتمدتها مجموعة من الدول والتي تأكّدت  مع مرور الوقت  أهميتها ونجاعتها في مكافحة الآفتين.
وفي هذا السياق راكم المغرب استراتيجية مهمة على مستوى التعاطي مع الإرهاب، منذ الأحداث العنيفة التي شهدتها مدينة الدار البيضاء في 16 من مايو/أيار 2003، وتقوم التجربة المغربية على التعامل مع الظاهرة بمنظور شمولي يستحضر العوامل المختلفة التي تغذّي العنف بمختلف أبعادها الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، ضمن مقاربة توازن بين المداخل الوقائية والزجرية.
فعلاوة على الانخراط في الجهود الإقليمية والتعاون الدولي في هذا الشأن، حرص المغرب على إصدار قانون يتعلق بمكافحة الإرهاب، كما قام بتعديل مجموعة من النصوص التشريعية في سياق مواكبة المخاطر التي أصبحت تطرحها الظاهرة، وخاصة على مستوى تجريم الالتحاق ببؤر التوتر، والإشادة بالإرهاب، وتوظيف تكنولوجيا الاتصال الحديثة في هذا الخصوص. فيما تمّت مراجعة الكثير من البرامج التعليمية باتجاه تعزيز قيم المواطنة والحوار والتسامح ونبذ التطرف والتعصب، كما أعيد النظر في تدبير الشأن الديني من حيث تأطير وتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات، وتحسين أحوالهم الاجتماعية، وتنظيم شؤون المساجد، وإعادة هيكلة التعليم الديني، وتأكيد الثوابت الدينية للدولة المبنية على الوسطية والاعتدال، إلى جانب الجهود الردعية التي تمحورت حول تفكيك عدد من الخلايا الإرهابية، ومحاكمة المتورطين في جرائم إرهابية، إضافة إلى اعتماد برامج توعوية وتأطيرية تنحو إلى الدفع بهؤلاء نحو مراجعة أفكارهم وتنوير عقولهم.
وفي هذا السياق، أطلقت المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج، بشراكة مع الرابطة المحمدية للعلماء، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان خلال عام 2017، برنامج «مصالحة» يقوم أساساً على مكافحة التطرف والعنف من خلال إطلاق برامج تكوينية مختلفة تستهدف السجناء المتورطين في ارتكاب جرائم تتعلق بالإرهاب والتطرف، يسهر عليها خبراء ومختصون في المجالات التربوية والدينية والقانونية والحقوقية والاقتصادية، على سبيل إرساء تربية دينية واعية، تقوم على فهم سليم ومنفتح للدين، وعلى ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، واستيعاب تطور المجتمع، مع المواكبة النفسية للمعنيين.
 ينسجم برنامج «مصالحة» مع الأهداف المفترضة التي ينبغي للمؤسسات السجنية أن تحظى بها، ليس فقط على مستوى ترسيخ الردع وحفظ الأمن والنظام العام، ومحاربة الجريمة داخل المجتمع؛ بل بتحويلها إلى فضاءات للتربية على المواطنة وحقوق الإنسان، ودفع المعنيين إلى نشر ما تلقّونه من أفكار ومعطيات ومعلومات في محيطهم.
يمثل البرنامج تجربة مهمة تعكس انخراط الدولة في مكافحة الظاهرة في إطار من الحوكمة التي توازن بين البُعدين الزجري والإنساني.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"