جدّ ودعابة في الكتابة

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

هل «غرّز» القلم في الكتابة عن الكتابة؟ لا غرابة، فالكتابة تقييد، تقول: «قيّد» بمعنى كتب وسجّل. وكتب القربة، شدّ فمها بإحكام فلا يقطر منها شيء. وكتب تعني فرض. الطريف أن الاشتقاق الأكبر في الكاف والتاء والباء، الوجوه الستة، التي يسميها المعري «القلبات»، تغلب عليها الشدة. شقيق كتب هو كبت، واستعماله في علم النفس أهون بكثير، لأن المعنى اللغوي هو الصرع والإذلال. من الوجوه: بكت، أي ضرب بالسيف والعصا. حتى غير المادي منه قاسٍ، بكت أي وبّخ وقرّع. التقريع أدهى لأنه يصوّر الشخص أقرع. عجبا، فهذا الثلاثي ليس في وجوهه رحمة: بتك، قبض على شيء وجذبه لاستئصاله.
طريقنا كانت غير هذه، فما الذي أتى بنا إلى هنا؟ الذنب ذنب الكتابة، لأنها مصدر إغراء وإغواء. هذا برهان قاطع على أنها فاتنة ذات مهارات في الإثارة. لا داعي إلى تكدير صفائك بأن المناهج العربية، منذ القرن التاسع عشر، لم تفكر في طريقة تجعل الإحساس بجمال اللغة، العمود الفقري لتعليم العربية. النحاة القدامى، سامحهم الله، أثقلوا اللغة بالشحوم والأورام، وزرعوا فيها أشكالاً من الخلايا النائمة: المستتر، المقدّر، المضمر، نظرية العامل، الاشتغال...
كان على أهل القرون الخالية أن يحفظوا طنّا من الشواهد لتلك الزوائد. أي عقل يملك ذرة من الذوق، يمكن أن يتوهم أن من يحشو دماغه بألفية ابن مالك، يبقى لديه ملليمتر مربع للإحساس بجمال العربية؟ النحو هو بمثابة قانون إشارات المرور، لا أكثر. لهذا يجب التركيز على الأهم: الدروب الموصلة إلى الغاية وهي جمال العربية والإبداع في كتابتها. أمّا سلامتها فلا تحتاج إلى كل تلك المتاهات، التي سخر منها النحاة أنفسهم، وثارت عليها العقول النيّرة، مثل ابن رشد وابن مضاء.
بقيت المعمعة الكبرى، وهي تجنب الوقوع في نظير فخ النحو، أي فخ تحويل تدريس البلاغة، على طريقة تدريس النحو. من الضروري أن تدرك المناهج أن الإحساس بجمال اللغة مرتبط عضوياً بالزمان، بالعصر. رواد الشعر في القرن العشرين صور الخيال الشعري لديهم هي التي توقظ الإحساس بالجمال لدى الدارسين اليوم. ذهنية من هنّ وهم دون العشرين اليوم غير عقلية عنترة، عمرو بن كلثوم، مسلم بن الوليد، المتنبي، أبي تمام... مناهج هذه الكلاسيكيات يجب أن توضع بتعاون خبراء التربية وعلم النفس.
لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: إذا لم ينتق التربويون الأدب الكلاسيكي بالمفرّق، فإن النشء الجديد سيهمل تاريخ الأدب بالجملة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"