تونس.. حين تقود الدولة التغيير

23:40 مساء
قراءة 4 دقائق

لا يقترن التّغيير السّياسي والإصلاح الشّامل بالثورات الاجتماعيّة التي تحدث بها قطيعة كاملة بين النّظام الجديد والنّظام القديم: هذا مجرّد نموذج من نماذج أخرى للتّغيير مختلفة. إذا كان قد نجح في فرنسا الثّورة (1789)، وفي روسيا البلشفيّة والصّين الشّعبيّة (1949)، فقد نجحت معه - وقبله - تجارب أخرى للتّغيير لم تتوسل الثورة الشعبيّة أداة وطريقاً، وإنّما تأتّى لها النّجاح عبر عمليات من التّكيّف مرّت بها النّخب الحاكمة أخذتْها إلى أن تقود - هي نفسُها - برنامج الإصلاح والتّغيير في مجتمعاتها.
 تلك مثلاً حال النّخبة السّياسيّة الإنجليزيّة الحاكمة في القرنين السّابع عشر والثّامن عشر. لم تنجح الطّبقات البرجوازيّة الصّاعدة في الوصول إلى السّلطة من طريق ثورة اجتماعية شاملة تقوّض النّظام القديم، كما سيحصل بعدها في الثّورة الفرنسيّة، لكنّ الطبقة الأرستقراطيّة تكيّفت - هي والمَلَكيّة الإنجليزيّة - مع الأوضاع الجديدة التي أنجبها صعود البرجوازيّة، فقادت عمليّة التّحوّل نحو نظام الدّولة الوطنيّة الحديثة، وأنجزت الثّورة الصناعية مع البرجوازيّة. وقد جرت عمليّاتٌ من التّكيّف السّياسيّ نظير هذه لدى معظم الطّبقات الحاكمة في بلدان أوروبا الحديثة، فكانتِ الدّولة نفسُها لا المجتمع هي مصدر التّغيير السّياسيّ والاجتماعيّ. ولا يتعلّق الأمرُ بخاصيّةٍ أوروبيّة، هنا؛ فلقد حدث الأمرُ نفسه في اليابان على عهد الميجي، في القرن التاسع عشر؛ حيث قاد الإمبراطور نفسه عملية التحديث والتغيير التي تحوّلت بها اليابان، بعد عقود، إلى قوّة عظمى. والتجربةُ عينُها تكرّرت، في اللّحظة الزّمنيّة عينها، في مصر محمد علي باشا وكادت أن تنجح، لولا الانقضاض الثّلاثيّ الإنجليزيّ- الفرنسيّ - العثمانيّ عليها.
 لدينا، في التّجربة العربيّة المعاصرة، حالة من هذا النوع من التغيير الذي تكون النّخبة الحاكمة - لا المجتمع - مصدره، هي حالة النّاصريّة. لم تتولّد السّلطة النّاصرية، ولا مشروعها السّياسي الوطني والقومي، من ثورة شعبية، وإنما تبلورت سمات مشروعها الجديد في سياق ممارستها السّلطةَ وقيادتها الدّولة. وحين أطلق عليها طه حسين - مبكّراً - اسم الثّورة (وكان اسمُها في الإعلام - آنذاك - الحركة المُباركَة)، كان يدرِك أنها تحمل مشروعاً سيغير وجه مِصر ومحيطِها العربي. وهو عين ما سيقع في الفترة الواقعة بين منتصف الخمسينات ومطلع السّبعينات عندما بدأت تتبدى أركانُ مشروعها الثّوريّ: الإصلاح الزّراعيّ، التصنيع، التّأميمات، القرارات الاشتراكيّة، دعم حركات التحرر الوطني، قيادة منظومة الجنوب في إطار حركة عدم الانحياز، الوحدة المصريّة- السّوريّة... إلخ. وليس من المبالغة القول بأنّ ما أنجزته النّاصريّة، في بحر عقدٍ ونصف العقد، يجاوز ما استطاعته نظم سياسية أخرى - تولدت من حركات ثوريّة - خلال عقودٍ من الزّمن.
يبدو كما لو أنّ هذه السّابقة تتكرّر اليوم، في تونس وتحديداً منذ الخامس والعشرين من يوليو/ تموز الماضي. صحيح أنّ تونس شهدت على «ثورة» في نهاية العام 2010 بداية العام 2011. لكن هذه «الثّورة» أنجبت عهداً سياسياً أخذ البلاد إلى ما يشبه الإفلاس، وتميز بتقاسم السّلطة بين الأحزاب التي استولت على مقاليد البلاد، وبالأزمات السّياسيّة المتعاقبة وتبدُل الحكومات في أسرع الآجال، وبانهيار مستوى التخاطب السّياسيّ بين النّخب، وبفسادٍ تغَوَّل من غير حسيبٍ أو رقيب، فيما الأزمةُ الاجتماعيّة التي تطحن النّاس آخذةٌ في الاستفحال والفُشُوّ قاذفة بعشرات الآلاف إلى التبطل، وبالفقراء إلى مزيدٍ من التّهميش والانسحاق، بل وبالطّبقة الوسطى إلى الانحدار في سُلّم المرتبية الاجتماعيّة. وبالجملة، لم تقُدِ «الثّورة» إلى التّغيير، بل إلى تدحرُج عامّ نحو القاع!
غير أنّ التّغيير الذي فشل في تونس من تحت: من المجتمع والشّارع والمعارضات، تتراءى فُرَصُ إمكانه متاحةً اليوم، في امتداد مسلسل القرارات والإجراءات التّصويبيّة التي أَقدم عليها الرّئيس قيس سعيّد منذ منتصف الصّيف الماضي. إنّ منحى تلك القرارات يُوذِن بأنّ الأمر فيها يتعلّق بتغيير جديد، ولكن هذه المرّة من فوق: من طريق سلطة الدّولة وفريقٍ حاكمٍ فيها. إذا كانت قرارات 25 يوليو قد تَغَيَّت وقْف النّزيف بتعليق عمل البرلمان وبإعفاء الحكومة المنبثقة منه، تمهيداً لإطلاق موجة إصلاحات للنّظام السّياسيّ، فإنّ قرارات 13 ديسمبر/ كانون الأول 2021 تتوخّى إنجاز هندسةٍ سياسيّة جديدة له: يتعزّز بها مركزُ الدّولة والنّظام الجمهوري، ويتشذّب بها ما شاب الدستور من شوائب التلاعب السياسي بالسلطات، ويتصحَّح بها مسار ديمقراطيّة تمثيليّة ليبراليّة، من طريق تعزيز المشاركة الشّعبيّة للمواطنين في الشّؤون العامّة بواسطة الأدوات التي تُنتِج مجالاً تداوليّاً عموميّاً لتلك المشاركة.
 ليس معلوماً، بعد، إلى أيّ حدّ سيظفر هذا المشروع بحظّه من النّجاح؛ لأنّ ذلك يتوقّف على قدرة الحوامل الاجتماعية والسياسية له على الصمود في حمله وإنفاذه، مثلما يتوقف على مستوى قدرة مقاومات قسمٍ كبيرٍ من المجتمع السّياسي له، وما تستطيعه تلك المقاومات لكبح اندفاعته. لكن الذي لا مِرية فيه هو أن برنامجاً للتّغيير تهيّأ لتونس من قِبَل الدّولة، وأن على الشّعب التونسي أن يغتنم فرصة هذا البرنامج ليخرج من أزمته المديدة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"