عادي

البحث عن «كان يا ما كان»

23:12 مساء
قراءة 5 دقائق
إحدى منمنمات يحيى الواسطي

القاهرة: وهيب الخطيب
الحديث عن استلهام التراث الشعبي في الأعمال الإبداعية عموماً، والسرد العربي على نحو خاص، يستدعي بالضرورة الحديث عن قضية قديمة متجددة، وهي الموقف من التراث الشعبي، الأمر الذي يجرُّ بالتبعية للحديث عن الثقافة المحلية ونظيرتها الوافدة، والعلاقة بينهما.

ومنذ بداية النهضة العربية الحديثة، وبالتزامن مع ميلاد الرواية، طفت الأسئلة التي تخص الموقف من التراث والحداثة والأصالة والمعاصرة، على سطح الكتابات الفكرية، الجدلية التي عُرفت باسم الأصالة والمعاصرة، وتفرعت فيها الرؤى وتباينت، بيد أنّ أغلب الآراء اتفقت حول ضرورة إعادة النظر في الموروث عامة، والشعبي خاصة، بعيداً عن الموقف منه أو الغرض من إعادة قراءته.

مع الوقت لم يكن بمقدورنا أن نجد متناً روائياً من دون أن يستدعي صاحبه شكلاً شعبياً تعبيرياً لتدعيم نصه وإثبات ثقافته وأصالته، فالرجوع إلى الماضي، واستدعاء الذاكرة، عملية تُثبت في نفسية المبدع أن الخلق الإبداعي لا يتأتى إلا باختراق الثابت والمستقر، وممارسة العملية الإبداعية أسلوباً جديداً يرقى إلى مستوى الحداثة.

ومع بدايات السرد العربي، عانى الكتّاب ثنائية ضدية، قوامها المصاهرة بين الحاضر والماضي، إشكالية استنزفت طاقات السجال والنقاش، في هذه المرحلة تحديداً كانت الشعوب العربية تعاني نير الاستعمار، الأمر الذي استلزم من البعض تبني إحياء تجديد التراث بمفهومه العام، وفي القلب منه الموروث الشعبي.

والنزعة السابقة إن دلت على شيء، فإنما تدل على تيار الوعي الذي أيقظته الظروف التي عايشها المجتمع بأنواعها: الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية، بالتالي أصبح استحضار الموروث، خاضعا لمرجعية الكاتب ووعيه بمكانته داخل الخطابات السردية، من أجل لعب دور في المحافظة على الهوية، أمام محاولات استلابها من قبل المستعمر.

وضمن سياق مقاومة الاستلاب، حلّ مصطلح الاستلهام رديف الإلهام في كل حالاته ولوازمه؛ وكرؤية معاصرة تتطلب قناعة راسخة بخطورة التراث عبر صلته المباشرة بالهوية، ويترتب على ذلك عودة واعية إلى فنونه وأجناسه من أجل إعادة صياغتها وتوظيفها.

هنا يرى بعض الباحثين أنه يمكن النظر إلى الاستلهام على أنه بنية إبداعية ترتكز إلى الذاكرة الجمعية وما صاغته المخيلة الشعبية من إسقاطات فنية وأقنعة وصور ميثولوجية لتنشد من خلالها وبها السفر إلى آفاق مستقبلية تارة ومواجهة مكابدات الراهن المعاش تارة أخرى، إنه حركة واعية متوازية بين الشعور الجمعي للذاكرة الشعبية وهي الملكة الفكرية المشاعة واللاشعور الشخصي وهو ملكة ثقافية خاصة.

التحرر

ومع فترات التحرر الوطني من الاستعمار، منتصف القرن ال 20 اهتّم الكتّاب بالإنسان العادي، ودافعوا عنه وتبنوا قضاياه، وجعلوه شغلهم الشاغل، حتّى صار التراث الشعبي المرجع الرئيسي للنصوص التي اهتمت بالصورة التي تنتجها الثقافة الشعبية، واللغة التي تنطقها، كذلك بالتعبيرات الشعبية التي تمثل جزءاً أساسيّاً في الثقافة الشعبية، كل ذلك كان لهدف التقريب بين الأديب ومجتمعه، ليصبح حال الشعب ولسانه.

واعتبر الآدباء، الروائيون والشعراء؛ بل والمسرحيون أيضاً، التراث الشعبي أهم المنابع التى راحوا ينهلون منها أعمالهم، وشمل مفهوم التراث التاريخ، والرحلة، والتصوف، والسيرة الشعبية، وتوظيف الأسطورة والقص الشعبي وحكايات ألف ليلة وليلة، وتغريبة بني هلال والزير سالم، وغير ذلك من العناصر التراثية.

واتكأ الروائيون على عناصر بعينها داخل التراث، منها مثلاً السندباد البحري بطل الليالي العربية، الذي استخدم رمزاً للشعوب، مع رمز شعبي آخر لعب الدور ذاته في تمثيل صورة الشعب، ألا وهو «جحا»؛ الرمز الثوري الشعبي الذي يقف بالنكتة والحيلة في مواجهة المستعمر داخل النصوص السردية.

وحلّت الأغاني الشعبية والفلكلورية، ومفردات الحياة اليومية، والأمثال بلغتها وألفاظها، والأخيرة تدل على جنس أدبي شائع يوجد في تراث الأمم والشعوب على اختلاف عصورها ومراحلها، وتجلى في مجال الأدب عبر شكلين، الأول الحكاية ومغازيها المختلفة، والثاني هو الحكمة التي تتضمن ملاحظة عامة أو درساً مستعاراً أو صورة من اليسير أن تحفر لها مكاناً في ذاكرة الإنسان.

أهمية الليالي

ومع حضور أي عناصر تراثية شعبية على نحو بارز وكثيف، يظل استلهام الليالي العربية هو الأهم والأوضح في الكتابات الروائية، وهنا نذكر رواية نجيب محفوظ الشهيرة «ليالي ألف ليلة».

وتعد حكايات الليالي من أشهر النصوص السردية على الصعيدين العربي والعالمي، بعد أن تحول المتن إلى نص ثقافي شامل يولد نصوصاً أدبية متنوعة، ورأى الكثير من كتّاب السرد أن التفاعل مع متن الليالي، يكسب نصوصهم قيمة جمالية مضافة، وأخرى معرفية في ثوب التراث وصياغة بناء روائي مغاير ومختلف عن الشكل الغربي للرواية.

عناصر

وكان لتوظيف عناصر الأسطورة في النصوص الروائية دوره في اتساع الخيال وتعميق الفكرة؛ وأصبح النص السردي أكثر عمقاً حيث شكل نصا موازيا في الحكاية.

ومثّل استلهام الموروث تعلقَ نص سابق للتراث بنصٍ لاحق جديد لتجاوز المألوف، وخلق ممارسة إبداعية ترقى إلى مستوى التجديد وتقتضي آليات وتقنيات العملية التجريبية.

ولعل التعلق بين النصوص الأدبية والتراثية، يكمن في كون النصين حكيّاً عما سبق، حتى وإن جاءت لغة السرد في صورة المضارعة أو المستقبل، فالمتن تام ومكتمل، وهو ما يمكن أن نشير عليه بأشهر عبارتي الحكي الشعبي؛ وهما «كان يا مكان» و«التبات والنبات».

العباراتان تأتيان دائماً في القصص الشعبية، وتملكان كمّاً من الخرافات وأطناناً من دلالات الحلم، تمثلان مدخلاً لفهم الغرض السردي، والقيمة الجمالية التي يقصدها مستلهمو التراث.

في «التبات والنبات» تعبير متعلق بالجملة السابقة «كان ياما كان»، وتمثل مقولة ختامية في القصص الشعبية، التي تبشر بانتصار البطل المظلوم، وهزيمة الظالم وهلاكه، ثم الأمنية المحرَّمة أيضاً، وهي استقرار حياة البطل وإنجابه للأولاد والبنات.

الجملة القصيرة تكتنز كل أمنيات الراوي في إقامة عالم مثالي يبدأ ب«كان ياما كان» التي تغرق في دلالة الماضي، وينتهي ب«التبات والنبات» وهي جمل تتجاوز الزمن، لكنها – أيضا - تحتفظ بدلالة الماضي؛ ومع ذلك فهي تشير إلى النهاية السعيدة التي «تشرح القلب الحزين»، لوجوب تحقيق الحلم.

من المحيط إلى الخليج

تتعدد الأسماء التي استلهمت الموروث في الكتابات السردية، بدءاً من نجيب محفوظ في «ألف ليلة وليلة» ويحيى حقي «قنديل أم هاشم» وعبد الحكيم قاسم «أيام الإنسان السبعة»، ومن بعدهم نجده في أغلب كتابات محمد مستجاب وسعيد الكفراوي وجار النبي الحلو وخيري عبد الجواد وسلوى بكر وهبة الله أحمد، وفي المغرب يحضر الموروث عند واسيني الأعرج وجيلالي خلاص والحبيب السائح ورشيد بوجدرة وغيرهم.

وفي الشام لا نغفل حضوره في روايات حنّا مينة، ومن فلسطين غسان كنفاني وغريب عسقلاني وصونيا خضر وفدى جريس، فيما يحل اسم علي المقري كاسم يمني بارز في الاستفادة من تراث بلاده.

أما الكتابات الخليجية فيرى الباحث البحريني علي يعقوب أنه لا يملك إحاطة يعتد بها في مجال استلهام التراث الشعبي في القصة والرواية الخليجية، ولا تعلق بذاكرته أعمال بارزة تمت فيها عملية استلهام خلّاقة؛ إذ ركزت أغلب الأعمال القصصية القصيرة والرواية من بعدها على تناول هموم الواقع الاجتماعي ومشكلاته المعاصرة وطرح نماذج بشرية لشخصيات تمثل سلطة العادات والتقاليد في صراعها مع المؤثرات الجديدة المنعكسة على الأبناء.
قيمة
أدركت الفنون وعلى رأسها الأدب قيمة إعادة المعرفة، فعملت على إحياء الموروث وتمجيده وتأويله، أو طرح الأسئلة عليه، ولم ينحصر الأدباء في تراث شعوبهم وأممهم، إنّما انفتحوا على موروثات الشعوب المختلفة، إيماناً منهم بإنسانية الموروث، فهو ملك للبشرية جميعاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2u6pnz3m

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"