الفرد وسؤال صناعة التاريخ

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

في مراجعات نقدية عديدة للدورة الانتخابية الرئاسية الأمريكية في عام 2016، يبدو أن كل الحسابات كانت تقلل من احتمال فوز الرئيس الأسبق دونالد ترامب، ومع ذلك، فإنه تمكّن من الفوز على منافسته هيلاري كلينتون، وهي سياسية مخضرمة، وزوجة رئيس سابق، ووزيرة خارجية. ولا يزال ترامب، القادم من عالم المال والأعمال حاضراً بقوة، حتى بعد خروجه من الرئاسة، ويشكل ظاهرة خاصة في السياسة الأمريكية المعاصرة؛ حيث تبدو شخصية ترامب وفرادته أساسية في منحه هذه المكانة، بغض النظر عن الموقف من سياساته، وفي الوقت ذاته، تفتح ظاهرة ترامب، ليس من باب طبيعتها الشعبوية، وإنما من باب السؤال عن الحضور الخاص للفرد في الشأن العام، المجال أمام إعادة طرح أعمق لدور الفرد في صناعة التاريخ، في الزمن الذي تبدو فيه المؤسسات هي الحاضر الأكبر في صناعة السياسات.

قبل أكثر من قرن، رفض الفيلسوف والمنظّر الروسي جورجي بليخانوف، التفسير التبسيطي الذي قدّمه بعض الماركسيين حول مادية التاريخ، وإلغاء دور الفرد لمصلحة الجماعة أو الطبقة أو الشرط الاجتماعي/ الاقتصادي، ورأى أن اعتبار «الفرد كتلة مهملة» هو مصادرة تنافي الوقائع الموضوعية للتاريخ نفسه، وفي مجمل عمله حول الجدل بين الفرد والتاريخ، طرح سؤالاً مفصلياً على الأحداث، وهو «ماذا لو أن فلاناً كان مكان فلان، فهل كان سيأخذ الحدث المجرى نفسه؟»، وإذا ما أسقطنا هذا السؤال بصيغة بليخانوف ذاتها اليوم على الحرب الروسية الأوكرانية، لكان من الطبيعي أن يكون هذا السؤال هو: هل لو كان في سدّة حكم روسيا شخص غير فلاديمير بوتين، فهل كان سيتخذ بالضرورة قرار الحرب؟

سؤال الفرد والتاريخ هو سؤال إشكالي في دراسة تأويل الوقائع التاريخية، لأنه من الناحية النظرية، يجعل من غير الممكن الاحتكام فقط إلى تطورات الواقع الموضوعي في مكانه وزمانه الخاصّين، عدا عن كون الإنسان هو الكائن التاريخي الوحيد في الطبيعة، لأنه الوحيد القادر على وعي الزمن، ما يجعل التاريخ ذاته، بشكل من الأشكال تاريخ الأفراد الفاعلين والمؤثرين والحاسمين في صناعة التاريخ، لكن أيضاً، في الجانب الإشكالي ذاته، تقع مسألة تعريف دور الفرد في الأطوار التاريخية المختلفة، وبناها الاجتماعية والسياسية؛ إذ لا يمكن المقارنة بين مكانة الفرد/ الحاكم في الدول ذات الحكم المطلق، وبين مكانته في الدول التي تمارس فيها السياسة بدلالة النظام التعددي الديمقراطي.

في معظم المراحل التي عرفتها البشرية، وجد التاريخ من خلال الفرد، وقد تكون صيغة الفيلسوف الألماني، جورج فريدريش هيغل (1770-1831)، التي تقول بأن «الفرد هو الروح الذي يتجلى فيه التاريخ»، هي الأكثر تكثيفاً للطريقة التي يستجيب فيها التاريخ لاحتياجاته الموضوعية، أو يعبّر فيها عن أزماته، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن أدولف هتلر الذي أصبح والنازية تعبيراً واحداً، كان يمثل الفرد الذي تجلّت فيه مشكلات ألمانيا الصناعية والقومية، وعبّرت عن نفسها من خلال سياساته ومغامراته العسكرية، التي أودت بصعود ألمانيا، وأهدرت ما راكمته من إنجازات وثروات.

لكن قانون الاستجابة بين ما هو موضوعي وبين ما هو فردي، أو جعل الفرد/ المؤثر مجرد استجابة لشروط محددة تاريخياً، يبدو متناقضاً إلى حد كبير مع قانون الاحتمال الرياضي.

في عالمنا المعاصر، تأخذ المؤسسة طابعاً تقديسياً متزايداً، حتى تكاد تبدو - في بعض الأطروحات - بأنها ما فوق فردية، أو أقرب إلى النظام المؤتمت، وبهذا فإنها تبدو فوق النقد، بوصفها سلطة، بتعبير الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو (1926-1984)، وإشكالية المؤسسة بهذه الصيغة/ السلطوية أنها تصبح المحدد الأول والأقوى في سلّم الارتقاء الاجتماعي، لكونها تحمي مصالح موازين القوى الذي تقوم عليه المؤسسة.

وإذا كانت الحداثة قد أعلت من شأن الفرد، فإنها عبر مساراتها في العقود الأخيرة، أعادت تقييده بدرجة كبيرة بسلطة وحضور المؤسسة، إلى درجة يبدو معها الحديث عن واقع هذا الفرد/ الحداثي هو سجال في طبيعة المؤسسات القائمة، وإضافة إلى هذه المعضلة، أضافت العولمة، عبر انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، مشكلة أخرى، تتمثل في اقتران مفهوم التأثير بالشعبوية؛ حيث يصبح الفرد المؤثر هو الأكثر شعبوية، بغض النظر عن جودة المحتوى، أو حتى ضرورته للآخرين.

من المؤكد أن صناعة التاريخ عملية مركّبة ومعقدة، لكن مكانة الفرد المؤثر في هذا الصناعة تبقى، على الرغم من كل التحوّلات، أساسية في تحديد الكثير من مساراته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/46wa7n3w

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"