عادي
أقدم أحياء الإسكندرية في ذمة التاريخ

«فينيسيا الشرق».. آخر أيام المكس

23:43 مساء
قراءة 3 دقائق

القاهرة:«الخليج»

تتناثر بيوت الصيادين ملونة الجدران على جانبي ترعة المحمودية التي تربط مياه النيل بالبحر المتوسط، عند حي العامرية غربي الإسكندرية في مصر، فتبدو للناظرين مثل لوحة فنية رسمتها أنامل فنان مبدع، رغم ما تتميز به من بساطة، تعكس إلى حد كبير ملامح حياة تلك الفئة من الناس التي سكنت تلك المنطقة منذ سنوات بعيدة، واتخذت من الصيد حرفة لها، تتوارثها الأجيال.

وتعبر قوارب الصيد الصغيرة مياه الترعة التي حفرت عام 1820، بأمر مباشر من محمد علي باشا، لرفد مدينة الثغر بالمياه العذبة من النيل، في رحلات يومية إلى زرقة المتوسط، بحثاً عن الرزق، قبل أن تعود أدراجها في المساء، محملة بما يجود به البحر من رزق، في مشهد اعتاد عليه أهالي الإسكندرية لأكثر من قرن، بعدما تحولت تلك القرية الصغيرة، إلى سوق شعبي لتجارة الأسماك، بأسعار زهيدة للغاية.

على مدار سنوات طويلة، جذبت قرية الصيادين بمنطقة المكس بالإسكندرية عيون كثير من الباحثين عن المتعة، حيث تتراص بيوت الصيادين على ضفتي ترعة المحمودية في تناغم فريد، ما جعلها واحدة من أجمل المناطق التي يمكن زيارتها في مدينة الثغر، قبل أن تقرر الحكومة المصرية قبل ثلاث سنوات، إخلاء المنطقة والبدء في هدم البيوت التي أقيمت على ضفتي الترعة، ضمن مشروع كبير يستهدف إنشاء ميناء جديد، يربط ميناءي الإسكندرية في تلك المنطقة، التي كانت توصف حتى وقت قريب ب«فينيسيا الشرق».

ويرجع كثير من الباحثين سبب تسمية تلك المنطقة الفريدة بالمكس نسبة إلى المكوس، أي الجمارك، التي كانت تحصّل في تلك المنطقة على البضائع الواردة من الغرب، خصوصاً وقد ظلت ترعة المحمودية على مدار عقود طويلة واحدة من أهم مسارات سفن الشحن، التي كانت تعبر من أقصى شمال البلاد، محملة بالبضائع، في طريقها إلى عمق مصر عبر مجري نهر النيل، قبل أن يقتصر استخدام الترعة على أغراض الري وتوفير مياه الشرب للإسكندرية.

ذلك لم يمنع استخدام مئات من الصيادين لأرصفة الترعة مكاناً للإقامة، بعد إغلاق تلك القناة الصغيرة أمام الملاحة، فأنشأوا عليها منازلهم الصغيرة، التي تمتد بطول يزيد على كيلو متر في تناغم بديع قلما يوجد في مكان آخر باستثناء مدينة البندقية الشهيرة في إيطاليا.

وقبل سنوات على صدور قرار تهجير سكان المكس، نظم عشرات من شباب القرية، حملة لتجميل البيوت، بإعادة طلائها بمختلف الألوان المبهجة، ويقول عبد الله ضيف، وكان واحداً من أبرز منسقي تلك الحملة التي رفعت شعار الفن مدخلاً للتنمية: كنا نستهدف من ذلك دفع مجتمع قرية الصيادين للأفضل، دون أن نغير من طبيعة حياة السكان التي تعتمد على حرفة الصيد، وكانت المشكلة الرئيسية التي تواجهنا دائماً أن المكان، رغم جماله، كان يتعرض لكثير من المشاكل، فالعديد من بيوت الصيادين البسطاء كان تتعرض للانهيار على وقع أمطار نوات الشتاء القاسية، لكننا نجحنا في التغلب على تلك المشكلة بالمشاركة المجتمعية، التي وصلت إلى حد إعادة بناء بعض المنازل التي تهدمت، وبناء أرصفة جديدة على جانبي قناة المحمودية، لمكافحة نحر البحر.

على مدار سنوات، جذبت منطقة المكس العديد من صنّاع السينما في مصر، فشهدت حتى نهاية التسعينات تصوير عدد من الأفلام الشهيرة، ربما كان من أهمها فيلم المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين، «إسكندرية ليه»، ومن قبله الفيلم الأشهر للنجمة الراحلة سعاد حسني «زوجتي والكلب»، الذي أنتج في بداية السبعينات، إلى جانب عدد آخر من الأفلام التي انتجت قبل سنوات قريبة مثل «بلطية العايمة»، و«صايع بحر»، و«رسايل البحر»، وغيرها من الأفلام والمسلسلات.

على الجسر المقابل للقرية، يقف أحمد البطل، وهو واحد من أكبر الصيادين سناً في القرية، يشاهد من بعيد أعمال التطوير التي تشهدها المنطقة، ودمعة مخاتلة تنسال من عينيه، متذكراً تلك الأيام الخوالي التي كانت تنطق بها قريته، بكل آيات البهجة. ويقول البطل: رغم أن منازلنا القديمة، لم تكن تملك شيئاً من مقومات الحياة العصرية، إلا أنها كانت تمثل جزءاً منّا، ومن تاريخنا وذكرياتنا. لا نريد أن نسكن القصور أو المساكن الفخمة، فقط كل ما كنّا نريده أن نعيش في سلام في حضن زرقة المتوسط.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3fbenc9v

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"