التحوّل الصيني في عالم مرتبك

00:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. إدريس لكريني

شهدت الصين على امتداد العقود الخمسة الماضية تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية هادئة ومنفتحة على المتغيرات الدولية، ما جعلها تراكم مجموعة من المكتسبات على المستويين الداخلي والخارجي.

فقد حرصت السلطات الصينية على التخفيف من حدّة الاحتكار الذي كانت تبسطه الدولة على الاقتصاد، علاوة على اعتماد مجموعة من الإصلاحات الإدارية والجمركية، مع إحداث مجموعة من المناطق الاقتصادية الحرّة التي كان لها دور كبير في تشجيع وتطوير المبادلات التجارية والاقتصادية مع مختلف دول العالم.

وعلى الرغم من التطورات الكبرى التي شهدها العالم في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الشرقية، ونهاية الحرب الباردة في تسعينات القرن الماضي، فإن الصين استطاعت أن تتكيف بقدر كبير من المرونة والذكاء مع هذه المستجدات، ما جعلها تقدّم للعالم نموذجاً متميزاً في الانفتاح على متغيرات العولمة بصورة لم تكلفها خصوصياتها التاريخية، ومقوّماتها الحضارية.

كانت مؤتمرات الحزب الشيوعي الصيني الذي تأسس في عام 1921 تنعقد في أجواء من التكتم والانغلاق، قبل أن تأخذ طابعاً من الانفتاح، الذي يعكس حجم التطور الذي شهدته البلاد على امتداد العقود الأخيرة، وهو ما جعل الدورة الأخيرة تحظى باهتمام دولي كبير، أخذاً بعين الاعتبار لمكانة الصين الدولية، ولأهمية الخيارات التي سيتخذها الحزب والتي لا تخفى تأثيراتها في العلاقات الدولية بشكل عام.

جاء انعقاد المؤتمر العشرين للحزب مؤخراً، في ظل ظرفية داخلية ودولية فيها كثير من الإشكالات. فعلى المستوى الداخلي، هناك مشكل تايوان الذي يمثل أحد التحديات الكبرى التي تسعى الصين إلى حسمها بكل الخيارات، وما زالت تداعيات جائحة «كورونا» تلقي بإشكالاتها الصحية والاقتصادية على البلاد.

أما على المستوى الخارجي فالمؤتمر ينعقد في ظل واقع دولي ملتهب بسبب الانعكاسات الكبرى التي خلّفتها الحرب الأوكرانية، إضافة إلى وجود توتر في العلاقات الصينية الأمريكية.

يمثل المؤتمر محطة لترسيخ تجدد النخب داخل الحزب الشيوعي، وتدارس مستقبله وعلاقته بالدولة، وتطوره في ظل المتغيرات التي يفرضها المحيطان الداخلي والخارجي؛ ذلك أن الحزب يمثل ذلك الإطار الذي تُتخذ داخل مؤسساته السياسات، وتصاغ فيها القرارات والتوجهات الكبرى التي تهم الحزب والبلاد في مختلف المجالات.

شهد المؤتمر مشاركة نحو 2300 مندوب، اختيروا من قبل أجهزة الحزب لانتخاب قيادة جديدة في إطار اللجنة المركزية لهذا الأخير. وقد تميزت أشغال المؤتمر بإدخال تعديلات على قانونه الأساسي، بصورة تعزّز مكانة الرئيس تشي جين بينغ داخل اللجنة المركزية للحزب، وتقوّي مكانته كمنظر ومرشد للحزب، كما تم أيضاً تأكيد رفض ومعارضة كل التوجهات الانفصالية لتايوان.

على امتداد أشغال المؤتمر وردت كثير من الرسائل الموجّهة للداخل والخارج، ويمكن استخلاص جزء مهم منها ضمن ما ورد في كلمة الرئيس الصيني، الذي أكد الاستمرار في «بناء دولة اشتراكية حديثة وقوية بخصائص صينية، والاتحاد مع أبناء الشعب بمختلف مكوناته القومية». كما برزت رسائل أخرى تشير إلى رفض التوجهات الغربية التي تنحو إلى الهيمنة، وتأكيد أن الصين عازمة على تطوير آليات القوة الناعمة في سبيل تحقيق أهدافها الاستراتيجية، والتعهد بإقامة علاقات متوازنة مع محيطها بصورة تضمن التعاون، بعيداً عن كل مظاهر الاستغلال والهيمنة.

مثّل المؤتمر مناسبة أكدت من خلالها الصين أنها قوة دولية وازنة، بمؤسسات داخلية متماسكة، وقدرات اقتصادية وعسكرية، تتيح لها الاستئثار بأدوار طلائعية في النظام الدولي الذي ما زالت الولايات المتحدة الأمريكية تصرّ على قيادته بشكل منفرد.

وتشير الكثير من الدراسات والإحصائيات إلى أن الاقتصاد الصيني الذي يعتبر ثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، مرشح لمزيد من التطور وتجاوز الاقتصاد الأمريكي نفسه، وبخاصة أنه يحقّق نمواً مهماً وقياسياً، حيث وصل الناتج الإجمالي الصيني إلى أكثر من 18% من نسبة الاقتصاد العالمي، كما استطاعت الصين أيضاً أن تطور إمكانياتها العسكرية بشكل ملحوظ خلال العقود الأخيرة، وتمكنت أيضاً من تعزيز علاقاتها وشراكاتها مع عدد من دول العالم، وطرحت مبادرة «الحزام والطريق» التي حظيت باهتمام دولي واسع، وهو الأمر الذي بات يزعج الولايات المتحدة بصورة متزايدة.

وعلى الرغم من كل ذلك، مازال هناك وقت أمام الصين لتحقيق مزيد من المكتسبات التي تدعم شرعية ومشروعية تموقعها كقطب دولي وازن في عالم مرتبك، سواء على مستوى بذل مزيد من الجهد لتعزيز العدالة المجالية في البلاد، وترسيخ سياسات أكثر نجاعة في ما يتعلق بتدبير التنوع المجتمعي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3hzk8u6c

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"