مهمة التعليم الجامعي المزدوجة

00:13 صباحا
قراءة دقيقتين

د. علي محمد فخرو

يموج عالم اليوم كله بمراجعات كبرى، معمقة وجريئة، للكثير من الأفكار والممارسات والسلوكات التي تبين أن فيها نواقص وعللاً. ولعل الأزمات المالية والاقتصادية، وانتشار مختلف الأوبئة، محلياً وعالمياً، وصعود حركات وشخصيات شعبوية جاهلة نرجسية غير متزنة، وازدياد المخاطر والفواجع البيئية، قد ساهمت إلى حد كبير في ظهور تلك المراجعات على مستوى العالم كله.
  هناك الآن مراجعة نقدية لكل منطلقات الحداثة، خصوصاً بالنسبة للنظام الليبرالي الديمقراطي في الحياة السياسية. وهناك مراجعة للنظام النيوليبرالي الرأسمالي العولمي، خصوصاً تطبيقاته في عوالم المال والاقتصاد. وهناك مراجعة كبرى لكل جوانب الموضوع البيئي الطبيعي والعمراني البشري. وهناك أسئلة كبرى تطرح بشأن الأخطار الهائلة في حقل التواصلات الإلكترونية والاجتماعية المتعلقة بالأخلاق والذوق العام والقيم الإنسانية الكبرى. وبالطبع، تشمل المراجعة كل ما تقترحه موجات ما بعد الحداثة من أفكار جديدة، وسلوكات مجنونة، وقيم غير أخلاقية، وأحلام فردانية ضارة بالتماسكات المجتمعية وسلامتها.
  كل ذلك يطرح في الحال السؤال المفصلي الآتي: هل إن مؤسسات المجتمع المختلفة، وعلى الأخص مؤسسات التعليم العالي الجامعي، تُعدّ الشباب والشابات، جيل المستقبل الغامض المملوء بالمفاجآت، للتعامل مع تلك المراجعات بفهم عقلاني متزن، وبقدرة تحليلية نقدية موضوعية، وبتمسك بالمرجعيات القيمية والأخلاقية كموازين ضابطة لكل تلك المراجعات؟
  في اعتقادي أن الأغلبية الساحقة من الجامعات، وعلى الأخص في الأرض التي تهمنا، الوطن العربي كله، منشغلة إلى حدود الهوس بتهيئة تلامذتها التعليمية والتدريبية المهنية لكي يكونوا صالحين للقيام بوظائفهم بكفاءة ومرونة متغيرة ومتناغمة مع ضرورات وإملاءات الأسواق ومؤسسات الإنتاج، بينما تهمل الجانب المتعلق بتهيئة طلبتها بثقافة جادة ومتنوعة ليتخرجوا كمثقفين قادرين، ليس على الإندماج في عالم العمل بكفاءة فقط، وإنما قادرين أيضاً، وبنفس الكفاءة، على فهم ونقد المراجعات الكبرى التي ذكرناها، بل والالتزام الأخلاقي والضميري بالنضال من أجل مراجعات عميقة لمصلحة المجتمعات والشعوب، وليس لمصلحة أقليات الاستغلال والهيمنة والظلم واللاأخلاق في هذا العالم، وعلى الأخص في وطننا العربي الكبير.
  موضوع تخريج قوى عاملة ومهنية جيدة بكفاءة عالمية، ولكن ذات ثقافة وطنية وقومية ملتزمة بقضايا الأمة بالنضال من أجل مواجهة كل نواقص وأخطار ومؤامرات في تلك القضايا، يجب أن يكون موضوع الساعة، وموضوع الأولوية القصوى في تخطيط التعليم الجامعي. أوضاع عالمنا المملوءة بالأخطار والتعقيدات والمؤامرات تقتضي إعطاء أهمية كبرى للجانب الثقافي الإنساني في تكوين طلبة الجامعات.
  ومن دون ذلك سنظل نخرّج ما يشبه الروبوتات القادرة على الإندماج الكفؤ في العمل والمهن، ولكن غير القادرين على تعديل أي مسار خاطئ في تلك الأعمال والمهن.
 هذه الحاجة، لجعل التعليم جامعاً للجانبين في الإنسان العربي الخريج، القدرة المهنية العلمية الممتازة والثقافة الوطنية والقومية والإنسانية الملتزمة المناضلة غير الانتهازية، أصبحت حاجة أساسية وجودية في مجتمعات عربية تتعرض هويتها العروبية لأبشع وأخطر المؤامرات، الخارجية والداخلية، من أجل تمزيقها وإبقائها في عوالم التمزق والضياع والتخلف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ytrkfsn9

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"