من الأقمشة ينسجن الحنين

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

من بوسعه النجاة من الحنين للحظات أو الأوقات السعيدة في حياته؟. نحسب أنه لا أحد بوسعه ذلك. حتى لو كان «الحاضر أحلى» كما تقول أم كلثوم، فإن للزمن الذي تعارفنا على تسميته بالجميل في ذاكرة أي فرد، أو جيل بأكمله، مذاقاً مختلفاً. إذا كان هذا يصحّ على الأفراد فما بالنا بذاكرة الشعوب والجماعات حين تقترن بذاكرة أوطانهم، وحين يدور الحديث عن بلدان عربية كثيرة في لحظتنا الراهنة فإن الحاضر ليس أحلى في مطلق الأحوال، هل يقارن زمن العراق الحالي بماضيه قبل نصف قرن أو أقل، وهل يقارن زمن لبنان أوسوريا بماضيهما قبل عقدين أو ثلاثة، وهذا ينطبق على بلدان عربية أخرى، كانت الحياة فيها زاخرة بالوعود والآمال العظيمة، وفي شرايين مجتمعاتها تتدفق روافد الفن والثقافة والأمل والحياة، قبل أن يحلّ علينا زمن الحروب والفتن والموت والتهجير؟
حنين مثل هذا لزمنٍ كان أجمل وأندى، هو ما دفع مجموعة من النساء السوريات إلى تبني مشروع من خلاله يقمن بتدوير أقمشتهن القديمة «ونفخ الحياة في خيوطها التي هتكتها الحرب وآلام النزوح، ولفحها الحصار الغربي على بلادهن، ليصنعن من تلك البقايا الميتة، لوحات قماشية تفيض بالحب وذكريات السنين الآفلة»، حسب وصف التقرير الذي نشره موقع «سبوتنيك» عن هذا المشروع.
مجموعة النساء هذه أطلقت على نفسها اسم «نحلات سوريا». قد نسأل لماذا «نحلات» بالذات؟، والجواب سنجده في ثنايا التقرير المشار إليه، فهن يعملن «بدأب النحلة وصمتها»، جميل هذا التشبيه. فما أجمل تشبيه النساء بالنحلات، ليس فقط لأنهن يتحلين بما هي عليه النحلات من دأب والعمل بصمت ونكران ذات، وإنما لأنهن أيضاً صانعات عسل الحياة، الذي يجعلها محتملة رغم الصعوبات والنكبات.
الفكرة، في جوهرها، أعمق من مجرد تدوير أقمشة قديمة. إنها تتمثل في أن الثياب موضوع التدوير تعود إلى زمن ما قبل الحرب التي تجتاح سوريا منذ سنوات. في المعنى المباشر للفكرة يبدو المشروع كنشاط معيشي غايته مساعدة «النحلات» المعينات لعوائلهن في زمن الحرب، لكنه في الجوهر إعادة نسج لأحلام جميلة أجهضتها الحرب، حين تقوم «نحلات سوريا»، وعبر خيوط من الحب وإبر الأمل، ب«بعث الحياة في روح الأقمشة المطفأة لعلها تستعيد أنفاسها فتعيد معها ما ذهب ولم يعد».
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdznccad

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"