صورة الغرب المهشمة

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

إعلان السلطات الألمانية عن تفكيك شبكة إرهابية من اليمين المتطرف خططت للإطاحة بنظام الحكم، يعتبر خبراً صادماً بمعايير الثقافة الغربية المعاصرة. فمنذ عقود طويلة لم تشهد الدول الأوروبية محاولات انقلاب على السلطة أو وجود تنظيمات خارجة على القانون تسعى إلى الإطاحة بالشرعيات القائمة، ولم تعرف هذه الظواهر حتى في ذروة الحرب الباردة حين كانت القارة العجوز مسرحاً للصراع الإيديولوجي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة.
الآن، يبدو أن أوروبا لم تعد تشبه ما كانت عليه قبل سنوات، فالتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة أيقظت فيها شياطين الماضي، وباتت بعض دولها لا تختلف كثيراً عن البلدان التي طالما اعتبرتها المنظومة الغربية متخلفة عن ركاب الحضارة والديمقراطية ودولة القانون. وما تم الكشف عنه في ألمانيا يصنف على أنه حالة شاذة لا يمكن القياس عليها، لكنها تؤشر إلى تغيرات بدأت تزعزع الاستقرار الأوروبي وتهشم الصورة النمطية الغربية التي سادت بقوة بعد الحرب العالمية الثانية وهيمنت إثر انهيار المنظومة السوفييتية. وهذه التغيرات نتيجة لأسباب عديدة، منها شعور نسبة متنامية من النخب الأوروبية بأن الواقع العالمي بدأ يتغير في غير صالح بلدانهم، وأن سياسات العقود السابقة لم تكن تنظر بموضوعية إلى المستقبل، وتجاهلت فرضية انهيار النظام العالمي الحالي وإعادة بنائه وفق مقاييس جديدة تجعل من الغرب مجرد قطب لا يختلف عن غيره من الأقطاب العالمية الكبرى.
في السنوات الست الماضية، تلقت أوروبا ثلاث صدمات تاريخية في داخلها، كانت الأولى مع «البريكست» وخروج بريطانيا من التكتل وما أسفر عنه من سجالات في كل بلد حول جدوى التمسك بالاتحاد الأوروبي من عدمه، ورافق ذلك صعود أحزاب اليمين المتطرف. وجاءت الصدمة الثانية مع جائحة «كورونا» وما أنتجته من وضع صحي غير مسبوق أفضى إلى عشرات الآلاف من الوفيات وأعباء اقتصادية كبيرة جراء سياسات الحجر والإغلاق.
 أما الصدمة الثالثة، وهي الأعنف والأكثر تأثيراً على المدى البعيد، فكانت مع اندلاع الحرب في أوكرانيا، وما طرحته من أسئلة وجودية في أوروبا، وما يمكن أن تؤدي إليه من تقلبات سياسية واجتماعية، فضلًا عن تسديدها ضربة غير مسبوقة للقطاعات الاقتصادية ولحياة الدعة والرفاه. وهذه العوامل الثلاثة تشبه إلى حد ما ثورة كوبرنيكوس في القرن السادس عشر حين صدم المجتمعات آنذاك بأن الأرض ليست مركز الكون، بل مجرد كوكب في المجموعة الشمسية، وبالمثل فإن الصدمات الأوروبية الحديثة أظهرت أن الغرب لم يعد مركز العالم وصاحب القوة الأولى فيه.
لن يكون من المثير أن تشهد أوروبا في الأشهر والسنوات المقبلة مظاهر احتجاج وتمرد غريبة وغير مألوفة في تلك المجتمعات، لكن ما يتم الإعلان عنه، مثلما ما ورد من ألمانيا، يبدو أنه بداية سياق جديد يتشكل في ذلك الإقليم. ومن ضمن هذا السياق يمكن فهم التحذيرات التي تصدر من كبار القادة الأوروبيين، ومنهم الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان أسبق من غيره في التنبيه إلى التقلبات الجيوسياسية التي تعيشها أوروبا، وما قد تعرفه من تراجع في مجالات عدة، بدءاً من السياسة والهيمنة الاقتصادية وحتى كرة القدم.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3vxmjepr

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"