روسيا ورهائنها الأوروبيّون

00:55 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

الأوروبيون، اليوم، رهائن عند روسيا؛ بل هم كذلك منذ ابتداء عقوبات حكوماتهم على روسيا، تحت ضغط إملاءات الإدارة الأمريكية، منذ انطلاق العمليّة الرّوسية الخاصة في أواخر فبراير/ شباط 2022. قطعاً، لم ترغب روسيا في أن تصل علاقاتها بأوروبا إلى هذه الحال من السّوء، بينما هي جزء من جغرافيّتها، وبينما أنفقت عقوداً طويلة من العمل البنّاء من أجل تطوير تلك العلاقات وتوسيعها وتعزيزها، خاصّةً بعد زوال أسباب الشّكّ وعدم الثّقة (الاستقطاب الدّوليّ أثناء الحرب الباردة). وما كان لشعوب أوروبا - من جهتها هي أيضاً - مصلحة في أن تتدهور تلك العلاقات وتسوء إلى الحدّ الذي يُلحِق الأذى بالجميع، ولا كان لها يدٌ في ما انتهت إليه تلك العلاقات؛ فالشّعوب الأوروبيّة هذه - شأنها في ذلك شأن روسيا الاتّحاديّة - مغلوب على أمرها في ما جرى ويجري منذ بداية عام 2022، ومدفوع بها إلى حيث تسدِّد أثمان هذه الأزمة، تماماً كما دُفِعَت روسيا إلى ذلك.

شعوب أوروبا مغلوبة على أمرها من مصدريْن؛ من حكوماتها القائمة المتورِّطة في نهج سياسات عدائيّة تجاه روسيا تعود بأضرارٍ جسيمة على أوروبا؛ ومن الإدارة الأمريكية التي تسخِّر النّخبَ السّياسيّةَ الأوروبيّة الحاكمة لخدمة سياساتها المعادية تجاه موسكو، من جهة، ولإحكام قبضتها على «الاتّحاد الأوروبيّ» اقتصاديّاً، وخاصّةً في ميدان الطّاقة من جهة أخرى. وليس في الأفق المنظور ما يُسْتَدلُّ به على اقتراب نهاية هذه المحنة التي تعيشها بلدان أوروبا، جرّاء موجة الغلاء الفاحش وارتفاع أسعار الطّاقة، لأنّ الأسباب التي ولَّدتها ما تزال قائمة ومستمرّةً باستمرار السّياسات الرّسميّة الأوروبيّة في حالة الانتظام وراء سياسات واشنطن.

من النّافلة القول إنّ سياسة العقوبات، التي انخرطت فيها الحكومات الأوروبيّة بحماسة، انقلبت عليها وعلى إدارة بايدن معاً. ومع أنّها أرهقَتِ الاقتصاد الرّوسيّ - وهو أمرٌ متوقَّع تماماً - إلاّ أنّها لم تُدمِّره كما اعتقد الأوروبيّون والأمريكيّون، ولا أَوْقَفت آلتَه الإنتاجيّة، ولا أوْدتْ بقيمة الرّوبل... بل ضخَّت بعض التّعافي فيه، فيما هي انعكستْ نتائجَ في غاية الوَخامةِ على اقتصادات أوروبا وعلى معيش شعوبها ونمط حياتها. ولا يتعلّق الأمر في هذه النّتائج الفادحة بموجة الغلاء وارتفاع أسعار الوقود، والضّغط على إنفاق الطّبقات الوسطى، والنَّيْلِ من منوال الاقتصاد الاستهلاكيّ المألوف... فقط، بل يتعلّق أيضاً، وأساساً، بما مسَّ وسَيَمَسّ اقتصادات دول «الاتّحاد» من ركودٍ نتيجة انخفاض مستوى الإنتاج بمعدّلات عالية للنّقص الحاصل في الطّاقة المستخدَمة في عمل وحدات الإنتاج؛ الطّاقة التي اعتادت أوروبا على تدفّقها إليها، وعلى رخْصها بما يسمح بتعظيم الإنتاج - كما يقول المسؤولون الألمان - والتي باتت، اليوم، مطلباً عزيز المنال.

ما من شكّ في أنّ عواملَ عدّة - إلى جانب سياسة العقوبات ضدّ روسيا - فاقمت من أزمة المحروقات في أوروبا؛ وهي لا تبدأ بمحاولات دول أوروبا وضْع سقف لأسعار الغاز والنِّفط، ولا تنتهي بتخريب خطّ أنبوب السّيل الشّماليّ (وهو، قطعاً، ينتمي إلى أفعال إرهاب الدّولة). وهذه إذا كانت ستزيد من حجم الأعباء على مستويات الإنتاج في الاقتصادات الأوروبيّة - خاصّةً في اقتصاد ألمانيا الأضخم في «الاتّحاد» - فستفعل نظير ذلك على صعيد حياة الأوروبّيّين التي ستزداد معاناة مع النّقص الحادّ في التّدفئة، خاصّةً في فصل الشّتاء. لا غرابة، إذن، في أن تتصاعد موجات الاحتجاج الشّعبيّ في بلدان أوروبا على السّياسات التي قادت إلى هذه الأوضاع، وفي جملتها سياسة العقوبات على روسيا التي لم تحسب حساب ارتداداتها على أوروبا.

من البيّن أنّ بلدان أوروبا - دولاً ومجتمعات - لن تكون بعد العمليّة الرّوسيّة في أوكرانيا ما كانَتْهُ قبلها. الأمثلة والشّواهد كثيرة على هذا المنعطفِ المتزايدة علائمُه؛ التّناقضات التي تعتمل داخل منظومة دول أوروبا جرّاء الخلاف على السّياسات الخاطئة تجاه روسيا (مواقف اعتراضيّة من حكومات هنغاريا، النّمسا، إيطاليا، صربيا...)؛ صعود اليمين المتطرّف المعادي للسّياسة الأمريكيّة (إيطاليا)؛ التّزايُد المطَّرد للاحتجاجات الشّعبيّة، في عموم أوروبا، على سياسات النّخب الحاكمة فيها... ناهيك باحتمال تجدُّد حركات مناهضة الحرب النّوويّة، التي ستكون أوروبا ساحتها، بين «الأطلسيّ» وروسيا والتي قد تلاقي - في منتصف الطّريق - مطلباً استقلاليّاً أوروبياً (ذا جذور ديغوليّة) بانسحاب أوروبا من المنظومة الأطلسيّة.

وما من شكّ في أنّ روسيا بوتين تعوِّل على استفحال هذه التّناقضات داخل أوروبا، بما يُضْعِف مواقف نخبها الحاكمة أمام شعوبها، ويُصيب في الصّميم تبعيّتها لأمريكا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yc8js8r4

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"