حكمة كيسنجر والغباء المستحكم

00:35 صباحا
قراءة دقيقتين

عندما يطالب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، بضرورة إحلال السلام في أوكرانيا في أقرب وقت، ويعترف بأن هذه الحرب أحدثت تغيّرات استراتيجية يجب البناء عليها لتجنب حرب عالمية مدمرة وفوضى نووية، فهو يتحدث عن تجربة سياسية خصبة، ورؤية شاهدة على تحولات قرن من الزمان، وليس لأنه «لا يفهم شيئاً»، كما وصفه ميخايلو بودولياك، مساعد الرئيس الأوكراني.

كيسنجر، الذي يقارب عمره 100 عام، لا يزال أحد المراجع المهمة في السياسة الدولية، ولاسيما في ما يتعلق بالشؤون الروسية والصينية. وبعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، ابتعد، في إطلالاته الإعلامية النادرة، عن أساليب الحماس والتحريض ضد موسكو، ودعا، في مقابل ذلك، إلى ضرورة الأخذ في الاعتبار مصالح هذه الدولة العظمى عند مناقشة تسوية سلمية للوضع، وحذّر من إضعافها ومواجهة ردة فعل لا يمكن السيطرة عليها. ففي مقال كتبه عام 2014 في «واشنطن بوست» قال كيسنجر تعليقاً على الموقف الغربي من الوضع في أوكرانيا آنذاك، بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم: «في حياتي، رأيت أربع حروب بدأت بحماس كبير ودعم شعبي، لم نكن نعرف كيف ننهيها، وانسحبنا منها من جانب واحد». وهذا التوصيف المبكر ينطبق على واقع الحال اليوم، بعد أن تحولت الأزمة إلى حرب عنيفة تقف بالعالم أجمع على عتبة الجحيم.

ما يقوله كيسنجر لا يجد من يسمعه إلا القليل من زعماء الغرب الحاليين، رغم أن هذا الرجل ليس من المحللين السياسيين الهواة، بل صانع سياسيات من طراز نادر، وأحد العقول الأمريكية الاستراتيجية المطلعة على كل التفاصيل الدقيقة المتصلة بالعلاقات الدولية. وحين ينصح بضرورة التفاوض مع موسكو، فهو يصدر عن قناعة بدأت تترسخ لدى الكثيرين في الغرب بأن هذه الحرب ستفضي إلى مصير لا يمكن تخيّله، إذا لم تتوقف في أقرب وقت، وإذا لم توضع معايير ثابتة للسلام تضمن التعايش بين الدول الكبرى، وأساساً بين الولايات المتحدة وروسيا.

ما يؤخذ على الدول الغربية أنها لم تقدم مبادرات جادة للسلام، بل انخرطت في التوجه الأمريكي بضخ مختلف أنواع الأسلحة إلى أوكرانيا لدعمها في مواجهة الجيش الروسي على أمل إلحاق الهزيمة به، وكسر شوكة الكرملين. لكن ما حدث أن ذلك الدعم ساهم في إطالة النزاع، وبدأت فرضياته تتهاوى، واحدة بعد أخرى، ودفع روسيا إلى التشدد أكثر، والتصميم على تحقيق أهدافها مهما طالت هذه الحرب، ومهما تطلبت، وما أكده الاجتماع العسكري برئاسة فلاديمير بوتين يؤكد هذا التوجه. وربما لم يكن صدفة أن يتزامن اجتماع موسكو مع زيارة الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي إلى واشنطن طلباً للأسلحة النوعية. وبين ما يجري في موسكو وواشنطن، يشير إلى أن المأساة ستكبر وستشهد فصولاً مثيرة مع بداية العام المقبل. ويبدو أن الغباء المستحكم بقوة في دوائر صنع القرار بالعواصم ذات الصلة بهذه الأزمة المتفجرة، لا يسمح بسماع الدعوات إلى السلام وخفض التصعيد، مثلما لم تتم الاستجابة لنصائح كيسنجر، كأن قدر العالم أن ينزلق في هذه المحنة ويعيش تهديداً وجودياً لا مثيل له.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/8n9mat3d

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"