التفاهة.. وتصريف الأزمات

00:50 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. إدريس لكريني

اعتادت كثير من النظم السياسية في عدد من الدول على الاشتغال بمنطق المؤامرة والإدارة بالأزمات، سبيلاً لصرف نظر الرأي العام عن قضاياه الحقيقية، وللتغطية على كثير من الإخفاقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتخبّط فيها.

وينطوي هذا الأسلوب على قدر كبير من الخطورة، بالنظر إلى كونه يقوم على الخداع والمكر، وعلى مصادرة الحقوق والحريات، وإعطاء الأولوية للمصالح الشخصية على حساب تحقيق المصالح العامة. وتحفل التجارب الدولية بهذه الممارسات التي لم تُستثن منها حتى الدول المتقدمة كالولايات المتحدة.

وتشير الممارسات الدولية إلى أنه كلما تعقّدت الأزمات واشتدّ حرج بعض صانعي القرار أمام الرأي العام، زادت إمكانية افتعال أزمات وهمية لتصريف نظيرتها الحقيقية. وتزداد خطورة هذه الآلية مع تطور تكنولوجيا الاتصال الحديثة، وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي التي تحولت معها من آليات للتواصل إلى قنوات حقيقية للضغط وتوجيه الرأي العام، ما سمح ببروز عدد من المؤثرين الذين يحظون بمتابعات واسعة في أوساط المجتمع بكل مكوناته، وذلك من خلال ترويج محتويات فنية ورياضية وسياسية بأشكال مبهرة، لا تخلو في جزء كبير منها من مضامين تافهة، يحركها أساساً هاجس الشهرة والكسب السريع للمال، وكثيراً ما تمس مواضيعها بحقوق الإنسان؛ بل تحرض أحياناً على العنف والكراهية، أو تسقط في نشر التفاهات والشائعات والمعلومات الخطأ، والجري وراء الفضائح وافتعالها.

لا يمكن إنكار الجهود التي قامت بها كثير من الدول في ضبط المجال الرقمي بشكل عام، عبر سنّ قوانين، حاولت من خلالها الموازنة بين حماية حرية التعبير التي تدعم النشر الإلكتروني بكل أشكاله، انسجاماً مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان من جهة، والحرص على ضمان الأمن الرقمي عبر مواجهة الجرائم الرقمية المختلفة، بقدر من الصرامة، من جهة أخرى. غير أن الأمر يطرح أكثر من سؤال، وبخاصة عندما تتورط نظم سياسية بكل ثقلها في دعم هذه الشبكات؛ بل وتكليفها برسائل تسويقية «لإنجازاتها» ومكتسباتها الوهمية، وتصفية حساباتها مع خصومها، حيث أصبح كثير من المؤثرين يحظون باهتمام ملحوظ من قبل وسائل الإعلام الرسمي في عدد من الدول.

ويزداد الأمر خطورة في المنطقة العربية التي تعيش مجموعة من بلدانها على إيقاع كثير من المشاكل والمعضلات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، والتي تعمّقها بعض النقاشات التافهة التي يطرحها جزء من هذه الشبكات، سواء بتكريس الرداءة والسطحية، أو بإذكاء الصراعات والأحقاد والكراهية بين شعوب يجمعها مشترك حضاري تاريخي، أو عبر الاشتغال بمنطق إثارة الفضائح والسجالات المبتذلة..

إن الاهتمام والتشجيع اللذين يحظى بهما رواد ترويج هذه التفاهات، غالباً ما يقابله تهميش وتقليل من شأن أدوار النخب المثقفة داخل المجتمع، بصور مباشرة أو غير مباشرة، بينما يتحمّل عدد من المثقفين أنفسهم، مسؤولية الانزواء والنأي عن مواكبة الشأن العام بالتحليل والنقد.

لا يخلو الترويج للتفاهة من خطورة حقيقية تطال المجتمع والدولة معاً، فكثيراً ما يتم ترويج عدد من المضامين السطحية وتحويلها إلى قضايا رأي عام، على حساب ملفات مهمة تؤرّق بال فئات واسعة من المجتمع، ما يشكّل هدراً للطاقات والفرص، وانحرافاً بالنقاشات العمومية، كما أن هذا الترويج غالباً ما يوازيه أيضاً، تغييب ملحوظ لأدوار عدد من القنوات الوسيطة داخل المجتمع، والتي يفترض أن تحظى بمهام ومسؤوليات سياسية واجتماعية وثقافية وتعليمية، كما هو الشأن بالنسبة للأحزاب السياسية والنقابات، والإعلام المهني، وهيئات المجتمع المدني، ومختلف المؤسسات التعليمية، باعتبارها صمام أمان داخل المجتمعات، ما يجعل «التغييب» خطراً حقيقياً يهدد استقرار الدول ويفقدها توازنها. وتبرز الكثير من الوقائع والأحداث الدولية أن حبل الكذب يظل قصيراً، فالمبالغة في الترويج لمنجزات داخلية، وخارجية للاتحاد السوفييتي سابقاً، لم تحل دون انهياره بشكل فجائي، كما أن التسويق لقدرات وهمية لعدد من النظم التي تورّطت في معارك خارجية كبرى، لم يحل دون رحيلها بشكل مهين، تحت ضغط محكّ الواقع الذي كشف زيف شعارات تحيل إلى «قوة» لا تستند إلى مقوّمات داخلية تُسندها.

أخيراً يمكن القول إن مراهنة بعض النظم على هذه القنوات، لتصريف أزماتها، هو خيار فاشل؛ بل هو مغامرة غير محسوبة، ذلك أن كسب رهانات التنمية والممارسة الديمقراطية، لا يتأتّى إلا بفتح المجال أمام النخب الحقيقية لإرساء نقاشات بنّاءة أمام القنوات والمؤسسات الوسيطة للاستئثار بأدوارها ومسؤولياتها المجتمعية، في إطار من الحرية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n82fz3n

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"