شبكات التواصل.. إلى أين؟

00:38 صباحا
قراءة 4 دقائق

د.إدريس لكريني

عندما ظهرت شبكات التواصل الاجتماعي في سياق الطفرة التواصلية التي أحدثها انتشار شبكة الإنترنت، لا أحد كان يتوقع حجم التطور الذي ستصل إليه مع انتشارها، ومع طفرة الذكاء الاصطناعي، أو التنبؤ بعدد الإشكالات القانونية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي ستطرحها، بعد أن تحولت هذه الوسائط من قنوات للاتصال، إلى آليات للتنشئة والضغط والتأثير في واجهات عدة.

برزت هذه الشبكات التي تختزن إمكانات تقنية مذهلة، على مستوى توظيف الصورة والصوت والفيديو والتفاعل والبث المباشر والترجمة وتوظيف مختلف التطبيقات، في بداية الأمر كتقنيات للتواصل بين مرتادي هذه الشبكات، عبر نشر الصور، والأشعار، والخواطر، والرسومات، كسبيل لإبراز القدرات، وتبادل الآراء بصدد عدد من المواضيع الثقافية والاجتماعية، خصوصاً أنها تزامنت مع التحولات الكبرى التي خلّفها تمدّد العولمة، وتزايد الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية، وكسر الحواجز أمام البضائع والأفكار.

وجد الكثير من الشباب في هذه الوسائط فرصاً لتفجير الطاقات، وللتعبير عما يخالجهم من أفكار، وتطلعات، وآمال، ومنصات للتواصل بينهم عبر الحدود، ما جعل الإقبال عليها يتزايد في أوساط هذه الفئات بشكل مكثف.

وشكّل النشر الإلكتروني وبثّ الصور ومقاطع الفيديو عبر هذه الشبكات ثورة حقيقية في مجال الاتصال والإعلام، فقد أصبح مجرد امتلاك هاتف مزوّد بكاميرا ومتصل بالإنترنت بمثابة قناة قادرة على تمرير مجموعة من الرسائل، والتعبير عن الآراء، وكسر مظاهر التهميش التي طالت فئات ومناطق وقضايا مختلفة عبر العالم، ما جعل هذه الشبكات تتحوّل بتدرج إلى قنوات ضاغطة مكّنت الكثير من الأشخاص والجماعات من التعبير عن آرائها، وعن تطلعاتها، ومن فضح خروقات وانتهاكات، والتحسيس بمعاناة بعض الشعوب، وكذا المطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية عبر مناطق مختلفة من العالم.

فقد استثمرها الشباب في المطالبة بفرص الشغل، وفي انتقاد الأوضاع، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وفي المطالبة باحترام الحريات وحقوق الإنسان، كما تم توظيفها أيضاً في الدفاع عن عدد من القضايا العادلة، كما هو الشأن بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، والتحسيس بمعاناة بعض الفئات الاجتماعية كذوي الاحتياجات الخاصة، والمهاجرين واللاجئين، والأقليات العرقية والدينية.

وأثبتت هذه المنصات نجاعتها في أجواء «الحراك» الذي شهدته المنطقة العربية في عام 2011، بعدما تمكن الشباب من توظيفها على نطاق واسع على مستوى تنسيق المواقف، وتعبئة الجماهير، وفي التأثير في الرأي العام، وطنياً ودولياً.

لم يخل توظيف هذه القنوات من إشكالات، قانونية واجتماعية، فعلى المستوى القانوني، ونظراً لهامش الحرية التي توفرها هذه الشبكات، فقد ارتفع منسوب الجرأة، فيما انتشرت الكثير من الحسابات بأسماء مستعارة، وبرزت العديد من الانحرافات المتصلة بارتكاب جرائم رقمية في علاقة ذلك بنشر الإشاعات، وممارسة الشتم، والقذف، عبر هذه الوسائط. علاوة على المسّ بالخصوصية، وبالحياة الشخصية، إضافة إلى نشر محتويات صادمة، أو عنيفة، أو تحرّض على الكراهية والعنصرية.. ثم ارتكاب جرائم القرصنة، والنصب، والسرقات الفكرية، عبر هذه الشبكات.

إن انتشار هذه الجرائم الرقمية بشكل ملحوظ، يعود في جزء كبير منه إلى غياب تشريعات صارمة، ومواكبة للتطور الرقمي، إضافة إلى جهل الكثير من رواد هذه الشبكات بمقتضيات القانون ذات الصلة، أو بمقومات العمل الصحفي، وكذا الاعتقاد بأن العالم الافتراضي، بتعقيداته المختلفة، غير معني بمقتضيات القانون.

ولا تُخفى أهمية الجهود التي بذلتها الكثير من الدول على مستوى اتخاذ بعض التدابير، أو سنّ تشريعات تواكب هذه الجرائم، إلا أن الأمر لا يخلو من صعوبات ومشاكل، بسبب التباين بين السرعة التي تطبع تطور التقنيات والمحتويات الرقمية من جهة، وبطء تطور التشريعات القانونية من جهة أخرى.

ورغم كل ذلك، يعتبر الكثير من المراقبين أن تدخل المشرّع لضبط الجرائم الرقمية، ينبغي ألا يمسّ حرية التعبير التي تضمنها الدساتير ومختلف التشريعات الوطنية، والمواثيق الدولية المتصلة بحقوق الإنسان. خصوصاً أن هذه الشبكات أصبحت تعجّ بالمواقف والأفكار التي عرّت في جزء كبير منها الاختلالات التي تطال أداء القنوات التقليدية الوسيطة، التي لم تعد قادرة على الاستجابة للتطورات المجتمعية، سواء تعلق الأمر بقنوات الإعلام التقليدي، أو الأحزاب السياسية، وكذا النقابات المهنية.

وفي مقابل ذلك، يرى آخرون أن جزءاً كبيراً من هذه الشبكات أصبح يستقطب في الوقت الراهن فئات واسعة من المجتمع، وهي تعج بمحتويات مسيئة للأفراد ولقيم المجتمع، ما يجعلها (المحتويات) تبدو كأنها تشتغل خارج القانون، ما يتطلب مواجهتها بالصرامة القانونية المطلوبة.

ووفرت شبكات التواصل الاجتماعي إمكانات هائلة لتبادل الأفكار والآراء والمعلومات بصدد عدد من القضايا بين مختلف الأشخاص، كما أسهمت في إلغاء الحدود الجغرافية والاجتماعية والسياسية بين الدول، غير أن الحرية التي يتيحها فضاء الإنترنت ينبغي ألا تستغل على نحو منحرف، وبصور تمسّ الحقوق والحريات والأمن، بمفهومه الواسع.

ومن ثم، فإذا كانت هذه الشبكات بحاجة إلى المحافظة على هامش الحرية التي أتاحتها شبكة الإنترنت خلال العقود الأخيرة، بشكل يضمن استمرار ديناميتها، فإن مضامينها تظل بحاجة إلى تأطير قانوني، وعقلنة أكبر، حتى تساهم من جانبها في تعزيز هذه الحرية وتطويرها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y86v25mv

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"