مسألة ضمير.. لا أكثر

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

هل يوجد شيء من القسوة في ما نقله المترجم العراقي علي القاسمي على لسان جوليو سيزار سانتويو، الأستاذ في جامعة ليون في إسبانيا، كما يعرّف به المترجم الذي نقل إلى العربية مذكّرات آرنست همنغواي في باريس، وجاءت تحت عنوان «الوليمة المتنقّلة»؟ يقول علي القاسمي، إن سانتويو أعرب عن دهشته لعدم زجّ كثير من المترجمين في السجون والمعتقلات؛ لأن ترجماتهم مملوءة بجرائم الكذب والتزوير وإخفاء الحقيقة، وغير ذلك من الجرائم التي يُعاقب عليها القانون.
من حيث الأصل أو من حيث المبدأ، فليس المترجمون وحدهم من يتوجب الزجّ بهم في السجون إذا ارتكبوا جرائم الكذب والتزوير في النصّ الأدبي الذي ينقلونه من لغة إلى لغة، بل إن كل كاتب يتخلّى عن ضميره الثقافي والأخلاقي فيكذب ويزوّر يستحق أن يُزَجّ به في السجن، ويجب أن يُعاقب بالقانون مثله مثل أي مجرم.
نقسو كثيراً على المترجم في ثقافتنا العربية، فمرّة نجلده جلداً مبرّحاً بالعبارة المتداولة والتي تفيد معنى اتهامياً مباشراً وهي: «الترجمة خيانة»، ومرّة نتهم المترجم بأنه يتصرّف بالنصّ على هواه الثقافي واللغوي في معزل كلّي عن المؤلف، بخاصة إذا كان المؤلف في عداد الراحلين عن هذه الدنيا الفانية، ومرّة نجرّد المترجم من عملية الإبداع الأدبي، ونعتبره مجرد ببّغاء ينقل الكلام من لسان إلى لسان، وفي كل المرّات نطالب بنصب حبال المشانق للمترجمين.
صحيح، هناك مترجمون تجّار يسلقون النصوص كما يسلقون البطاطا، وصحيح أن بعض دور النشر تستعمل مترجمين «تحت الطلب»، وبخاصة حين يفوز كاتب عالمي بنوبل وليس له أدب مترجم إلى العربية في سوق الكتاب، ولكن كل ذلك يقع في خانة الحالات الفردية، فليس كل المترجمين شياطين، وأيضاً ليس كلّهم ملائكة، وحين يزوّر المترجم فهو في حقيقته أساء إلى نفسه وخسرها فوراً في البيئات الثقافية النظيفة التي تميز مهنياً وأخلاقياً بين الملاك وبين الشيطان.
ثنائية الملائكية والشيطنة موجودة أيضاً عند الكتّاب العرب وغير العرب، عند الشعراء والروائيين والنقّاد والمفكرين والكثير ممن يشتغلون في الحقول الثقافية، وليس المترجم وحده من تنسحب عليه هذه الثنائية.
الكاتب المزوّر، الكذّاب، وذلك الانتهازي الجاهز دائماً لمن يدفع أكثر.. هذا النموذج الشيطاني يستحق السجن والاعتقال، أحياناً، أكثر ممّا يستحق المترجم.
مرجعية الكاتب هي ضميره فقط، فلا اتحادات الكتّاب، ولا المحاكم، ولا الشرطة، ولا السجن تؤدب الكذّاب والمزوّر إذا استفحل الشيطان في دمهما هذا، فالقصة ليست المترجم فقط، بل هي قصة أكبر: إنها مسألة تربية، وأخلاق، وضمير.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/j37xn7nk

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"