أوروبا والافتقار إلى الرؤية

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

لا مجالَ أمام أيّ إنكارٍ لِمَا تَعَرّضت له أوروبا من خسارات استراتيجية لمكانتها ومركزها في العالم بعد الحرب العالميّة الثّانيّة وبسببها. صحيح أنّها ظلّت تستطيع أن تقول - من باب المكابَرة أو تعزية النّفس - إنّها تحرَّرت من النّظام النّازيّ الذي دمّرها (علماً بأنّ ذلك حصل بتضحيات الجيش السّوفييتيّ، في المقام الأوّل، ثمّ بدخول الولايات المتّحدة الحرب إلى جانب الحلفاء)؛ وظلّت تستطيع أن تحتجّ بأنّ دولاً ثلاثاً منها هي في عداد القوى المنتصرة في الحرب، ومن الخمس الكبار المالكة لحقّ النّقض في مجلس الأمن. ومع ذلك، ليس يسعها الإغضاء عن أفْدح نتائج تلك الحرب: فقدانها مركزيَّتها في النّظام الدّولي التي كانت لها منذ بدايات العصر الحديث، ثمّ صيرورتها مجرّد ساحة مفتوحة لنفوذ قوًى كبرى جديدة في النّظام الدّوليّ أو - في أفضل تقدير- مجرّد قوًى من الدّرجة الثّانية مساعِدة في إدارة النّظام الدّوليّ.

الأفْدحُ من فقدان المكانةِ والمركز في العالم فقدانُ الاستقلال والسّيادة؛ وهذا لا يُقال - هنا- من باب المجاز، لأنّ أوروبا برمّتها فقدتْهُما معاً، بعد الحرب وعلى قاعدة نتائجها التي وقعتْ عليها، فقداناً حقيقيّاً لا غبار عليه. ماذا نسمّي انقسامها إلى غربٍ وشرق، وانتظامَ كلٍّ منهما في محورٍ أو معسكر تقودُه دولةٌ من العظميَيْن (الولايات المتّحدة، الاتّحاد السّوفييتيّ)؟ وماذا نسمّي انضواء قسميْها المتواجهين في منظومتين عسكريّتين تهدّدان بإفناء بعضهما («حلف شمال الأطلسيّ» و«حلف وارسو»)؟ ليس من تسميةٍ لذلك سوى أنّ أوروبا فقدت - بغربيّها وشرقيّها - استقلاليّة قرارها بعد الحرب الثّانيّة؛ القرار الذي لم يعُد في عواصم دولها؛ بل في واشنطن وموسكو في امتداد كثافة الوجود العسكريّ الأجنبيّ (الأمريكيّ والسّوفييتيّ) على أراضيها، ومعه نشر آلاف الصّواريخ الباليستيّة والنّوويّة على الأراضي تلك.

لم تتنفّس دول أوروبا الصّعداء، في معسكريْها المتقابلين معاً، سوى بعد انتهاء الحرب الباردة في نهاية ثمانينات القرن؛ فلقد كانت نهايتُها إيذاناً بتحرر قسمٍ من الهيمنة (دول أوروبا الشّرقيّة)، وباحتمال تحرُّر القسم الثّاني منها (أوروبا الغربيّة) الذي تَعَذّر تحقيقُه باستمرار دول أوروبا محكومةً بالقرار السّياسيّ والعسكريّ الأطلسيّ؛ وهو الاسم الحَركيّ للقرار الأمريكيّ وهيمنته.

وإنْ نحن شئنا الدقّة، فإنّ البلد الأوروبيّ الوحيد الذي غَنِم عظيمَ الغنائم السّياسيّة من انصرام حقبة الحرب الباردة هو عينُه الذي كان أكبر ضحايا تلك الحرب - والحرب العالميّة قبلها - أي ألمانيا. استعادت ألمانيا وحدتها التي قطّعها الاستقطابُ الدّوليّ بين العظميْين، ولم تلبث أن شهدت على عظيمِ نتائج ذلك التّوحيد الكيانيّ في أوضاعها الاجتماعيّة - الاقتصاديّة، وعلى صعيد مكانتها المحوريّة داخل أوروبا، خاصّةً بعد اتّساع نطاق نفوذها الاقتصاديّ في بلدان شرق أوروبا؛ حيث أصبحت - عمليّاً - عربة القيادة للقاطرة الأوروبيّة.

على أنّ انهيار الاتّحاد السّوفييتيّ السّابق، وسقوط الأنظمة «الشّيوعيّة» الموالية له في أوروبا الشّرقيّة، لم يقع استثماره استثماراً سيّاسيّاً ناجحاً - إنْ كان قد استُثْمِر اقتصاديّاً بما يكفي من النّجاعة -؛ فهو إذا كان قد رفع سيف التّهديد الأمنيّ الاستراتيجيّ والوجوديّ عن أوروبا (الغربيّة)، ودفع الوجود العسكريّ الرّوسيّ إلى ما وراء أوروبا الشّرقيّة، على بعد آلاف الكيلومترات من حدود غرب أوروبا، إلاّ أنّ ذلك لم يضمن لأوروبا أمنها على النّحو الكامل، لأسبابٍ تتعلّق بأخطاء في التّقدير لدى حكوماتها المندفعة وراء وهم الاندحار الرّوسيّ الاستراتيجيّ؛ وأوّل تلك الأخطاء وأفدحها الحاجة إلى الاستمرار في العلاقة الأطلسيّة؛ بل وتنميّة المدى الاستراتيجيّ الأطلسيّ إلى خارج حدوده التّقليديّة، قصد المزيد من محاصرة روسيا في أضيق نطاقٍ ممكن!

ارتضت أوروبا، إذن، أن تظلّ أسيرةَ النّظام الأمنيّ- السّياسيّ الأطلسيّ - من جهة، والمشاركة، من جهةٍ ثانية، في توسعة عضويّة الحلف وجغرافيّته السّياسيّة؛ بحيث يُغطّي كلّ المجال الأوروبيّ الشّرقيّ («الشّيوعيّ» سابقاً)، في مرحلة أولى، قبل مدِّ نفوذه إلى شرق الشّرق: إلى الجمهوريّات السّوفييتيّة السّابقة التي كانت، وما تزال، تمثّل المحيط الحيويّ لروسيا. وهكذا وجدت أوروبا نفسها شريكاً في مشروعٍ مغامرٍ ينتقل من الدّفاع عن الغرب (الولايات المتّحدة وأوروبا) إلى حصار روسيا حصاراً استراتيجيّاً خانقاً لن تقف إزاءه مكتوفة الأيدي. وليس يخفى أنّ مشروع ضرْب خناق الحصار على روسيا أمريكيٌّ، في المقام الأوّل، ولكنّ تبعاته ستكون على أوروبا وحدها التي ستجد نفسها - فجأةً - أمام روسيا المدافعة عن وجودها. هي، إذن، عاقبةُ الفقر إلى الرّؤية؛ إذْ ماذا يجري منذ فبراير/ شباط 2022 غير هذا؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y3rp3ttr

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"