سقف الدين وهيمنة الدولار

إن مجرد التهديد بدفع الولايات المتحدة إلى التخلف عن السداد له تأثير اقتصادي سلبي في البلاد، فكيف لو كان هذا التخلف حقيقياً؟
22:38 مساء
قراءة 4 دقائق

مايكل همفريز *
يهدد الجمهوريون بوقف زيادات سقف الدين ما لم يحصلوا على ضمانات بتخفيضات «غير محددة» في سياسة الإنفاق العامة، لكنهم يخاطرون بذلك، وهم الذين استعادوا السيطرة على مجلس النواب في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، بدفع حكومة الولايات المتحدة إلى التخلف عن السداد.

لقد أصبح شبح سقف الديون من الطقوس المعتادة لدى الإدارات الأمريكية المتعاقبة؛ إذ حدث ذلك مرة في عهد كلينتون، ثم أخرى مع إدارة أوباما عام 2011، وثالثة في عام 2021.

وكخبير اقتصادي، أعلم أن التخلف عن سداد الدين القومي تتبعه عواقب وخيمة على أرض الواقع، وحتى مجرد التهديد بدفع الولايات المتحدة إلى التخلف عن السداد له تأثير اقتصادي سلبي في البلاد. خذ على سبيل المثال في أغسطس/ آب 2021، حين أدى مجرد احتمال التخلف عن السداد إلى خفض غير مسبوق للتصنيف الائتماني السيادي للولايات المتحدة، مما أضر بالهيبة المالية لأمريكا وعدد لا يحصى من الأفراد والكيانات التابعة، فكيف لو كان التخلف عن السداد حقيقياً؟ سيكون بذلك الضرر أكبر بكثير. وقد يكون انهيار الدولار وفقدان دوره المحوري على نطاق واسع بوصفه «وحدة حساب التمويل والتجارة العالمية»، باكورة النتائج الأكثر خطورة، مما يجبر الحكومة الأمريكية والشركات على دفع فواتيرها الدولية بعملة أخرى.

من المحتمل أن معظم الأمريكيين غير مدركين بعد للقوة الاقتصادية والسياسية المصاحبة لكون عملتهم هي الأقوى عالمياً. ومن باب التوضيح، تتم حالياً أكثر من نصف تبادلات التجارة العالمية، من نفط وذهب وسيارات وتكنولوجيا وغيرها، بالدولار الأمريكي، في حين يمثل اليورو نحو 30%، وبقية العملات 20%.

ونتيجة لهذه الهيمنة، فإن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة على هذا الكوكب التي يمكنها سداد ديونها الخارجية بعملتها الخاصة. وهذا يمنح كلاً من الحكومة والشركات الأمريكية مساحة هائلة في التجارة والتمويل الدوليين.

كما أنه بغض النظر عن حجم الدين الذي تدين به الحكومة الأمريكية للمستثمرين الأجانب، يمكنها ببساطة طباعة الأموال اللازمة للسداد، على الرغم من أنه ولأسباب اقتصادية، قد لا يكون من الصحة ولا الحكمة القيام بذلك. في المقابل، يتعين على الدول الأخرى شراء الدولار أو اليورو للوفاء بالتزاماتها الخارجية، وهناك طريقتان وحيدتان للقيام بذلك، إما أن تزيد هذه الدول حجم صادراتها على حساب الواردات وإما من خلال اقتراضها المزيد من الدولارات أو اليورو من السوق الدولية. وبالتالي تبقى الولايات المتحدة متحررة من مثل هذه القيود، ويمكن أن تتجاوز عجزاً تجارياً كبيراً لعقود من دون نفس العواقب.

وبالنسبة للشركات الأمريكية، فإن هيمنة الدولار تعني أنه بإمكانها البيع والشراء بعملتها الخاصة، وعدم الخضوع لمخاطر سعر الصرف مثل منافسيها الأجانب، مما يمنحها ميزة تنافسية هائلة، فمخاطر سعر الصرف تشير إلى كيفية تأثير التغيرات في القيمة النسبية للعملات في ربحية الشركة.

ونظراً لأن معظم التجارة الخارجية مقومة بالدولار، لا بد من مرور هذه التجارة عبر بنك أمريكي في مرحلة ما، وهو ما يمثل إحدى الطرق المهمة التي تزيد بها الولايات المتحدة قوتها السياسية والاقتصادية، لا سيما إذا ما أرادت فرض عقوبات على كيانات أو حكومات غير صديقة.

فمثلاً، عندما فرض الرئيس السابق دونالد ترامب عقوبات اقتصادية على إيران وعلى الشركات غير الأمريكية التي تتعامل معها، امتثلت معظم اقتصادات العالم لحاجتها إلى الدولار، مما منع طهران من الوصول إلى البنوك الأمريكية أو الدولار نفسه، ونتيجة لذلك، دخلت إيران في ركود عميق، وانخفضت عملتها بنحو 30%. والأمر نفسه تقريباً جرى في عهد الرئيس الحالي بايدن ضد روسيا، وهذه المرة رداً على حربها في أوكرانيا، الأمر قيد وصول موسكو إلى الدولار، ودفع البلاد إلى حافة ركود موسع كما يرى محللون سياسيون واقتصاديون. وعليه، لا يمكن لأي بلد آخر اليوم أن يفرض «من جانب واحد» هذا المستوى من الألم الاقتصادي على بلد آخر مثلما تفعل الولايات المتحدة، وكل ما يحتاج إليه أي رئيس أمريكي حالياً هو قلم وورقة.

في السياق، إذا ما سلطنا الضوء على العلاقات الأمريكية الصينية، فإن إحدى نتائج انهيار الدولار هي تعزيز مكانة أكبر منافس للولايات المتحدة عالمياً، وهي الصين. وإذا ما حل اليورو محل الدولار كوحدة الحساب الرئيسية في العالم، فإن اليوان الصيني على الأرجح سينتقل إلى المركز الثاني ليصبح عملة دولية مهمة، مما سيؤدي إلى تعزيز مكانة الصين الخارجية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. وهي التي تعمل اليوم بالفعل مع دول أخرى، مثل البرازيل وروسيا والهند، لقبول اليوان كوحدة حساب. ومع استياء هذه الدول حقيقة من الهيمنة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة، فإن تخلف واشنطن عن السداد، إن حصل، سيدعم جهود بكين المستمرة.

وبعيداً عن التأثير في الدولار والنفوذ الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة، سيضر التخلف عن السداد بشدة، ومن نواح كثيرة أخرى، بعشرات الملايين من الأمريكيين وآلاف الشركات التي تعتمد على الدعم الحكومي، ومن المرجح أن يغرق الاقتصاد في ركود، أو ما هو أسوأ من ذلك.

الحقيقة هي أننا لا نعرف بعد ما سيحدث أو إلى أي مدى سيصبح الوضع سيئاً، فمن الصعب حساب حجم الضرر الناجم عن التخلف عن السداد في الولايات المتحدة مقدماً لأنه لم يحدث من قبل. لكن هناك شيء واحد يمكننا التيقن منه، وهو إذا ما استمر الجمهوريون بركوب موجة التهديد بالتخلف عن السداد، فستعاني الولايات المتحدة والأمريكيون بشكل كبير.

* نائب رئيس قسم إدارة الأعمال بجامعة تورو (ذا كونفيرزيشن)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mwe7d9n5

عن الكاتب

نائب رئيس قسم إدارة الأعمال بجامعة تورو (ذا كونفيرزيشن)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"