صعوبة الكتابة السياسية

00:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

الكتابة بشكل عام مسؤولية وأمانة، عمل أخلاقي وفكري وثقافي، يؤثر بشرائح عديدة من المتلقّين عن طريق التراكم المعرفي، والنحت في الموقف تكراراً وتعديلاً وابتكاراً وتجديداً. قد تكون الكتابة آمنة بعض الشيء في ميادين وحقول معيّنة، كالعلوم التطبيقية والتقنية، والمجازفة فيها قليلة كالكتابة الثقافية والاجتماعية، لكن الكتابة السياسية من دون أدنى شك، تُعدّ مجازفة في أشكالها كلها، توثيقية وتحليلية ودعائية وتحريضية، رغم أن الكتابة السياسية يفترض بها أن تكون موضوعية، وتتّبع المنهج العلمي، شأنها شأن أي بحث علمي، لا بد من توفير البراهين والأدلة والشهود، ولا مجال للتكهنات ولا الشخصنة ولا الخيال.

الكتابة السياسية عمل ليس سهلاً كما يعتقد كثيرون، ولا يجب أن يطرق بابها أي إنسان، لأنها لا تتعلق بحرية الرأي والتعبير فقط، إنما قد يترتّب عليها اتخاذ قرارات مصيرية تصل إلى الحرب أو السلام أو المراوغة بينهما، لهذا، هي عمل استراتيجي بامتياز، يستند إلى قراءة واعية للمواقف المحلية والدولية، بصفتها ترتبط ببعضها بعضاً، وإلى قدرة استثنائية على استنباط الموقف وتحليل الأحداث تحليلاً جاداً.

هناك كتّاب سياسة يصنعون التاريخ ويغيّرونه، وهناك من يجترون الأحداث ويطرحون سيناريوهات.

وينطبق على المحلل السياسي في البرامج التلفزيونية أو الإذاعية ما ينطبق على الكاتب السياسي، رغم أن الأول قد يتعرض لانفعال يؤدي إلى إطلاق مواقف وتحليلات غير منطقية، أما الثاني فلديه متسع من الوقت للملمة أفكاره وصياغتها في قالب موضوعي ومنطقي وعلمي. نعم الكتابة السياسية والتحليل السياسي يجب أن يتحلى بالمنطق، كالرياضيات، لأنه يتعامل مع وقائع حدثت وتحدث، من قام بها بشر حقيقيون، لهم أفكارهم وسياستهم وتطلعاتهم، من هنا فإن الكتابة السياسية ليست آمنة إلا إذا التزم الكاتب السياسي بالمعايير والشروط السابقة، فهل يلتزم الكتاب والمحللون بتلك المعايير، وما هي نسبتهم؟

أتابع مقالات سياسية وبرامج تُسمّي نفسها سياسية، بهدف الوقوف على الجهود التحليلية خاصة في القضايا الكبيرة، كقضايا الشرق الأوسط، وقضايا الصراع بين العملاقين الأمريكي والصيني، أو الصراع الروسي الأوكراني، فلا أعثر إلا على تكرار للأخبار ولتصريحات الزعماء والمسؤولين في تلك الملفات، وغالباً ما أخرج خالي الوفاض، بل أخرج أحياناً حزيناً لأنني لم أعثر على مبتغاي، وأحياناً، وبعد مشاهدتي لبعض البرامج الحوارية السياسية أخرج مصاباً بخيبة أمل، لأنني أكون قد تابعت جولات من الردح السياسي وليس الحوار، ومن توجيه الاتهامات وليس التحليل، ومن صراع شخصي، إذ يتحول الحوار إلى توجيه اتهامات شخصية قد تصل إلى الشتائم النابية، وهذا يؤثر سلباً على صورة المحلل السياسي العربي فيُتّهم بالغوغائية، خاصة أن مدير الحوار يسعى إلى تأجيج الخلافات بين ضيوفه بمكر غير عادي.

أفهم أن الكاتب السياسي غالباً ما يكون منحازاً إلى جهة معيّنة ويتبنى وجهة نظرها وموقفها، لكن هناك ما يُسمّى بالانحياز الخفي غير الملموس، وهذا لا يجيده سوى المتحدث أو الكاتب المثقف سياسياً، ويستخدم لغة وأسلوباً حضارياً ويطبق القاعدة التي تقول (أختلف معك وأحترم رأيك لكن لي وجهة نظر أخرى)، وهذا نادراً ما نراه في البرامج العربية.

لا بد من الانتقاء الجيد للكتّاب السياسيين والمتحاورين والمحاورين، حتى يحافظوا على احترام القارئ أو المشاهد لهم، وحتى يقدموا له وجبة تحليلية دسمة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3vpktzvu

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"