معضلة الادخار في الصين

22:45 مساء
قراءة 3 دقائق

تشانغ جون*

زادت الودائع المصرفية الصينية بمقدار 26.3 تريليون يوان (3.9 تريليون دولار)، العام الماضي، مدفوعة باستراتيجية الحكومة الصارمة لاحتواء «كوفيد -19»، والتي تراجعت عنها في ديسمبر/ كانون الأول الفائت، وفقاً للبيانات الأخيرة الصادرة عن البنك المركزي هناك. وارتفعت في المقابل مدخرات الأسر بمقدار 17.8 تريليون يوان (2.6 تريليون دولار)، في عام 2022، منها نمو بأكثر من 5 تريليونات يوان في الشهرين الأخيرين فقط، من العام نفسه.

وبالنسبة للعديد من الاقتصاديين والمحللين في الغرب، تمثل هذه «المدخرات الزائدة» طلباً مكبوتاً قد يؤدي إلى موجة مما يُسمى «الإنفاق الانتقامي» هذا العام، ودفع الانتعاش الاقتصادي العالمي قُدماً. وبينما من المتوقع أن تشهد الصين انتعاشاً في الاستهلاك هذا العام، فإنه من المرجح أن تحافظ الأسر الصينية على مستوى أعلى من المدخرات الاحترازية على المدى الطويل.

ومن المؤكد أن الزيادة في مدخرات الأسر الصينية العام الماضي غير عاديةّ وتعكس عدم قدرة المستهلكين على الإنفاق نتيجة لعمليات الإغلاق الوبائي الصارمة التي أجبرت الملايين على البقاء في منازلهم، وأحياناً لعدة أشهر في كل مرة. والآن وبعد رفع القيود وفتح الأبواب، من المنطقي أن تستفيق الكثير من هذه المدخرات النائمة، ما يرفع حجم الاستهلاك كثيراً.

لكن، تجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس كل فائض في المدخرات هو نتاج ضعف إنفاق المستهلكين، فهناك نسبة كبيرة جداً من الودائع الأسرية موجودة كإجراء احترازي. فالأسر الصينية عموماً، تدّخر في شكل إسكان واستثمار مالي، وفي العام الماضي أخّرت شراء المنازل وانسحب كثير من هذه الأسر من سوق الأوراق المالية، وغيرها من الأصول المالية ذات الأداء الضعيف لمصلحة الاحتفاظ بأموالها في الودائع المصرفية. ووفقاً للتقديرات، انخفضت مشتريات المساكن بنحو 3-4 تريليونات يوان صيني في عام 2022، ويرجع ذلك في الأغلب إلى توقعات المستثمرين تراجعاً اقتصادياً مستمراً. وحتى لو عاد الإنفاق الاستهلاكي إلى طبيعته هذا العام، فمن المرجح أن تمنع حالة عدم اليقين المتزايدة الأسر الصينية من صرف مدخراتها التي جمعتها بصعوبة في المساكن، أو الأسهم، لذلك ستظل الودائع المصرفية أعلى قيمة.

وأظهر مسح أجراه بنك الشعب الصيني خلال الربع الثالث من العام الماضي، أن الأسر الصينية لا تزال تميل إلى الادخار. وقال نحو 22% فقط، من المستجيبين إنهم يرغبون في شراء المزيد من الأشياء، مقارنة ب 58% عبّروا عن رغبتهم في زيادة مدخراتهم، فيما ينوي نحو 19% زيادة الاستثمار. ويعكس هذا من ناحية الطبيعة التي جُبل عليها سكان الصين لفترة طويلة، حيث لم يستطع عقدان من النمو القوي للدخل التأثير، إلا قليلاً، في معدل ادخار الأسر. كما يعكس أيضاً الحذر المستمر بشأن الاقتصاد، وسط الجهد الذي تبذله الأسر بالفعل للتعامل مع ارتفاع تكاليف الإسكان والتعليم والرعاية الصحية في الصين.

ويجب على صانعي السياسة الصينيين الاعتراف بالمخاطر التي تشكلها المدخرات الزائدة على التنمية الاقتصادية للبلاد، ومعالجة أزمة كلفة المعيشة التي تجعل المستهلكين الصينيين يترددون في الإنفاق. صحيح أنها أحرزت تقدماً كبيراً في إعادة بناء نظام الضمان الاجتماعي الخاص بها على مدار الثلاثين عاماً الماضية، إلا أن الصين لم توفر لمواطنيها مستوى من الحماية يتناسب مع قوتها الاقتصادية. وحتى في المدن الكبرى، مثل بكين وشنغهاي، حيث دخل الأسرة مرتفع نسبياً، لا يزال السكان يكافحون لتحمل التكاليف الباهظة للإسكان والرعاية الصحية والتعليم ورعاية المسنين.

ولتشجيع المدخرين على الإنفاق مرة أخرى، يجب على الصين أولاً تخفيف عبء كلفة المساكن داخل المدن الكبرى، ربما من خلال بناء إمدادات كافية من المساكن الحكومية العامة، والإيجارات طويلة الأجل في المناطق الحضرية، والتأكد من أن هذه الوحدات تلبي معايير السلامة والجودة العالية في جميع أنحاء البلاد، الأمر الذي ينهي حالة الادخار الطويلة بين الأسر، ويشجعها على الاستهلاك، خاصة بين الشباب.

وبخلاف الإسكان ميسور الكلفة، فإن تقديم الدعم المالي للأسر لتأمين احتياجاتها الأساسية من خلال برامج الرعاية الاجتماعية أمر بالغ الأهمية لاستعادة ثقة المستهلكين، وهنا يتعين على صانعي السياسة إعادة تصميم هيكل الإنفاق المالي الحكومي. وعليه، يمكن أن يؤدي الشعور المتزايد بالحماية المالية والرعاية الاجتماعية للأسر ذات الدخل المنخفض والمتوسط إلى زيادة الإنفاق ومسار تنمية أكثر استدامة خلال العقود المقبلة.

ولكن من دون إصلاح شامل لسياستها المالية ونظامها الضريبي، ستقود مدخرات الأسر المتراكمة إلى إعاقة الآفاق الاقتصادية طويلة الأجل للصين، التي اعتمدت بدورها في العقود الأخيرة على استراتيجية النمو القائم على الاستثمار والائتمان لتعزيز الطلب الكلي وتعويض الاستهلاك البطيء.

* عميد كلية الاقتصاد بجامعة فودان، ومدير المركز الصيني للدراسات الاقتصادية (بروجيكت سينديكيت)

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8kx5tp

عن الكاتب

عميد كلية الاقتصاد بجامعة فودان، ومدير المركز الصيني للدراسات الاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

مقالات أخرى للكاتب