المستقبل الضائع وكـيفيـة اسـتعـادتـه

إضاءات على الديمقراطية والحوكمة
23:22 مساء
ترجمة وعرض:
نضال إبراهيم
قراءة 8 دقائق
3
3
3

عن المؤلف

الصورة
3
جان زيلونكا
جان زيلونكا أستاذ السياسة والعلاقات الدولية بجامعة أكسفورد وجامعة كا فوسكاري في فينيسيا. وهو مؤلف كتاب «الثورة المضادة: أوروبا الليبرالية في تراجع»، ويسهم بشكل مستمر بمقالاته وأبحاثه في الصحف والمنشورات الأوروبية الرائدة

تعيش دول العالم واقعاً ديمقراطياً ضعيفاً ينعكس بشكل مباشر على أبسط الأمور في حياة الناس، فلم تعد الكثير من الحكومات تستطيع إنقاذ مواطنيها من براثن الفقر والأزمات المتتالية. يوضح هذا الكتاب أن المستقبل يتسم بالغموض، خاصة في ظل السياسات القومية الراهنة والمصالح قصيرة المدى، ويؤكد ضرورة بناء نظام حوكمة عالمي شفاف يعود بالنفع على جميع سكان الكوكب دون تمييز.

يرى جان زيلونكا في هذا الكتاب الصادر عن مطبعة جامعة ييل (7 فبراير 2023) باللغة الإنجليزية ضمن 288 صفحة، بأن الخلل الحاصل في الديمقراطية هو الذي يجعل السياسة تتعثر في عالمنا المترابط بشكل متزايد. فمع استمرار اقتصار حكوماتنا على حدود الدول القومية، والدفاع عن المصالح قصيرة المدى للناخبين الحاليين، فإن العواقب ستكون وخيمة على الأجيال القادمة.

 يقدم المؤلف الطرق التي يجب أن تتكيف بها الديمقراطية مع عالم يتسم بسرعة عالية، ويتساءل: هل من المقبول للسلطات والشركات مراقبة أماكن وجودنا؟ لماذا يعد توزيع الزمان والمكان غير متكافئ إلى هذا الحد؟ والأهم من ذلك، هل يمكننا بناء نظام حكم جديد يسمح لنا بالتخطيط المسبق بشكل مؤكد؟

 تراجع الديمقراطية

 يبدو أن المستقبل مبهم وملامحه تصبح مشوشّة بشكل متزايد. فالأنظمة الديمقراطية تفشل في منع الأزمات المالية ونقص الطاقة وتغير المناخ والحرب فكيف نتطلع إلى المستقبل بثقة؟ يبدأ المؤلف بطرح أسئلة مباشرة هي: «هل يزداد إحباطك من متابعة الأخبار السياسية؟ هل أنت قلق بشأن مستقبل بلدك إن لم يكن الكوكب كله؟ هل تعتقد بأن أداء الديمقراطية ضعيف؟ إذا كان الأمر كذلك، أهلاً بك في نادي المواطنين القلقين والساخطين. يبدو كما لو أن سياسيينا يعملون بنشاط على أجندات جديدة وطموحة، لكنها تحقق القليل بشكل ملحوظ. لقد اكتسبوا سلطات طوارئ استثنائية في السنوات الأخيرة، ويمكنهم الاعتماد على أحدث العلوم، ويستخدمون وسائل اتصال فائقة الحداثة. ومع ذلك، فإن عملهم المحموم يولد القليل من التحسينات الملموسة في حياتنا أو البيئة الطبيعية. حتى السياسيين المفضلين لدينا، ناهيك عن أولئك الذين لا نحبهم أو لا نثق بهم، عالقون في عجلة الهامستر هذه. لا بد أن ثمة خطأ صميمي في السياسة الديمقراطية إذا شعرنا بأن المستقبل قد ضاع حقاً أو أنه يضيع من بين أيدينا. يحاول هذا الكتاب حل هذا اللغز المؤثر. يجد المؤلف أن السياسة قد خرجت عن التزامن مع الزمان والمكان، وهذا الفشل هو الذي يفسر إلى حد كبير عدم قدرتنا الحالية على تأمين المستقبل»

 ويضيف: «تذكرني السياسة المعاصرة بفرقة نحاسية عسكرية عالقة في زحمة السير أثناء استعراضها. تواصل المسير والعزف، لكنها لا تتقدم. عندما تصبح الموسيقى حيوية بشكل متزايد، فإنها تكثّف خطواتها، لكن حركاتها السريعة لا تكتسب أي أساس. يبدو أن كل جهودها تذهب سدى، زيها الرسمي الفاخر غارق في العرق، وتكشف وجوه الموسيقيين مزيجاً من الضحك واليأس. يبدو الوضع سخيفاً بشكل متزايد». ويوضح المؤلف موقفه الصريح قائلاً: «لقد كنت طوال حياتي من أشد المؤيدين للديمقراطية، ولا يسعدني أن أراها في وضع غير جيد. عندما كنت أعيش خلف الستار الحديدي في بولندا الشيوعية، اختبرت بنفسي كيف يمكن أن تكون بدائل الديمقراطية غير جذابة، لكن لا يشعر الجميع بالشيء نفسه. في الواقع، أثبت مؤشر مؤسسة برتلسمان لعام 2022 أنه لأول مرة منذ سنوات عديدة لدينا الآن أنظمة استبدادية في العالم أكثر من الديمقراطيات. يبدو الآن أن الرئيسين شي جين بينغ وفلاديمير بوتين مصممان على تحدي الديمقراطيات في المجالات العسكرية والاقتصادية. حتى في أوروبا وأستراليا وأمريكا الشمالية، فإن السياسيين المستعدين للتضحية بالديمقراطية على مذبح المجد الوطني يقومون بعمل جيد في صناديق الاقتراع. لن يتم عكس الوضع بمزيج من الإصلاحات الانتخابية وخطابات الحنين إلى الماضي؛ بل نحتاج إلى نهج جديد حقاً لتمكين الديمقراطية من حماية مستقبلنا، وإلا فسوف يسود المستبدون من مختلف الأنواع».

 هشاشة الهندسة السياسية

 والدافع الذي جعله يقدم على كتابة هذا العمل وبشكل غير متوقع تماماً هو أنه اعتاد على اعتبار الزمان والمكان تصنيفين ميتافيزيقيين مع القليل من الأهمية للسياسة العملية، ويجد أن «الزمان والمكان كنوز ثمينة لجميع البشر، لأننا نعيش عبر الزمان والمكان، وكلاهما «سلع» نادرة. نحاول أن نعيش أطول، وأن نتحرك أبعد وأسرع، وأن نحسن نوعية وقتنا وفضائنا الذي نعيش فيه. قد يكون وقتنا ومساحتنا محدودين جداً، لكننا نريد تحقيق أقصى استفادة منها، ويضيف على ذلك: «تمزق الزمان والمكان الناجم عن جائحة «كورونا» جعلني أقرأ الأعمال التي كتبها زملاء من مجموعة متنوعة من التخصصات، سرعان ما أدركت أن إخفاقاتنا السياسية الراهنة ليست ناجمة فقط عن أيديولوجيات شريرة وأسواق جشعة وقادة غير أكفاء؛ إنها أيضاً، إن لم يكن في المقام الأول، دالة على سوء تعاملنا مع الزمان والمكان. لقد تأثرت بشكل خاص بمجموعة من الكتاب المعاصرين اللامعين: هيلغا نووتني، ساسكيا ساسين، آن ماري سلوتر، جون كين، تشارلز س. ماير وولفغانغ ميركل، على سبيل المثال لا الحصر. لقد جعلوني أشعر بالفضول بشأن الزمان والمكان، وواثقاً من قدرتنا على تصحيح الأمور لصالح كوكبنا ومستقبلنا». 

يشير المؤلف إلى أن «الأزمة العالمية التي كشفت عنها عمليات الإغلاق المرتبطة بجائحة كورونا جعلتنا ندرك أننا نعيش مع الأرض، متشابكين إلى الأبد، متورطين، متداخلين، دون أن نكون قادرين على تقييد هذه الروابط في التعاون أو المنافسة. أظهر الهجوم الروسي على أوكرانيا أيضاً مستوى التورط في الزمان والمكان: عادت أشباح التاريخ بالانتقام، ووصل الخوف من الحرب وثمنها إلى أماكن بعيدة عن ماريوبول وبوتشا وكييف. ماذا يمكننا أن نفعل حيال هذا المأزق؟ هل يمكن للسياسة أن تساعدنا على الإبحار بأمان عبر منحدرات الزمان والمكان؟».

 البحث عن المستقبل الضائع

خلال الحملة الانتخابية الرئاسية لعام 2016 في الولايات المتحدة، حصل المؤلف على شارة تحمل شعار «ترامب. أمل أمريكا الأخير»، ويعلق على ذلك بالقول: «وجدت هذا الشعار يائساً للغاية في بلد يفتخر بكونه بطل العالم. الوعد بالبقاء الأبدي في حالة من التقدم هو جوهر «الحلم الأمريكي»، ما يعني أنه إذا كنت تعاني في الوقت الراهن بعض الصعوبات، فلا داعي للقلق لأن أطفالك يجب أن يكونوا، على أي حال، أفضل منك. ومع ذلك، في عام 2017، نشر مركز«بيو» للأبحاث تقريراً بيّن فيه أن 37 في المئة فقط من الأمريكيين يعتقدون بأن أطفالهم سوف يكبرون ليكونوا أفضل حالاً من الناحية المالية من آبائهم. ومع ذلك، كان الأمريكيون أكثر تفاؤلاً من معظم الأوروبيين، ففي فرنسا، أعلن 9 في المئة فقط من الذين شملهم الاستطلاع أن أطفالهم سيكونون في وضع أفضل، بينما اعتقد 71 في المئة بأنهم سيكونون أسوأ حالاً، وأكثر من 60 في المئة من الأوروبيين أعلنوا في دراسة أخرى أنهم لا يثقون في حكومتهم الوطنية».

 يجد الكاتب أن الكثير منا فقد الثقة في المستقبل الديمقراطي، ولكن السؤال: هل يمكن إنقاذ المستقبل الضائع واستعادته؟ يجيب عن ذلك قائلاً: «ليس عليك أن تصدق استطلاعات الرأي لتستنتج أن آفاق المستقبل ضبابية في أحسن الأحوال. لقد قتل الوباء الملايين ودمر حياة العديد من المواطنين الذين يفترض أنهم محظوظون، على الرغم من التقدم العلمي والجهود البطولية للعاملين في المجال الطبي». ويجد أنه لا يزال هناك من يغزو دول أخرى ويقتل الأبرياء. ويقول: «يتقدم التدهور البيئي على الرغم من اجتماعات القمة المنتظمة بشأن تغير المناخ. لقد وصلت اللامساواة إلى مستويات غير مسبوقة بغض النظر عن التعهدات المتكررة للحد منها. تترنح الرأسمالية تحت تأثيرات أزمات متتالية على حساب العائلات البسيطة. نحن الآن نواجه تهديدات الأمن السيبراني، إضافة إلى التهديدات المعروفة التي تشكلها الأسلحة النووية والدبابات والمدافع الرشاشة في أيدي الدول المفترسة والأفراد المتعصبين. لا شيء من هذا من الأخبار المزيفة. يمكننا أن نجادل في خطورة هذه الكارثة أو تلك، وأن نسأل الذين أعلنوا نهاية العالم. يمكننا الاستشهاد ببعض الإحصاءات الاقتصادية المبهجة لجعلنا أقل كآبة. ومع ذلك، من الصعب إنكار تراكم المصائب التي نفتقر إلى الاستجابات المناسبة لها. 

 حافة الهاوية

ويضيف: «بالطبع، ليست هذه هي المرة الأولى التي يبدو فيها العالم على حافة الهاوية، ومع ذلك فقد تمكنا من التعافي. ففي النصف الأول من القرن الماضي الذي مزقته حربان مدمرتان، والإنفلونزا الإسبانية والانهيار الاقتصادي والفاشية، وعلى الرغم من كل ذلك تعافينا. لكن هذا لا يمكن أن يكون عزاء لنا. يجب أن نأخذ في الاعتبار ضحايا هذه الكوارث الماضية وثمن إعادتنا إلى الوضع (الطبيعي). لهذا أجد التجاهل والتقليل من خطورة المأزق الحالي إما أمراً خبيثاً أو غير مسؤول. إن القول إن المستقبل دائماً ما يكون غير مؤكد ولسنا بالضرورة على طريق يفضي بنا إلى الجحيم؛ أو يفترض آخر أن المشكلات الخطِرة ستحل بطريقة ما نفسها دون تعديلات كبيرة من جانبنا. وكما قال جون كين ببراعة: (إن التواضع في مواجهة الشكوك الجديدة التي يتسم بها البشر كرعاة حكماء بدلاً من أسياد متطرفين للمحيط الحيوي هو أمر إلزامي الآن. وكذلك الأمر بالنسبة لإعادة تصور الديمقراطية مشروعاً لحماية البشر ومناطقهم الأحيائية من الخراب الذي تمارسه السلطة بشكل تعسفي».

 يرى الكاتب أنه غالباً ما نلقي اللوم على الرأسمالية التوربينية المتسارعة وغير الخاضعة للمساءلة وغير المتوازنة لحرماننا من المستقبل، لكنه هنا يركز على السياسة الديمقراطية. يقول: «بعد كل شيء، من المفترض أن تحمينا الحكومات المنتخبة من الصدمات الخارجية مثل الانهيارات المالية أو الخارجية أو الأوبئة والآثار الجانبية للتقدم التكنولوجي؛ إذ يجب على الحكومات الحفاظ على النظام وجعل الحياة قابلة للتنبؤ إلى حد ما. فبدون هذه القدرة على التنبؤ، تكون الوظائف والمعاشات في خطر، بينما تصبح الاستثمارات وحتى الزيجات مشاريع خطِرة. ومع ذلك، تفشل الحكومات اليوم في أداء هذه الوظائف الأساسية. إنها ببساطة تدير الحاضر بدون رؤية معقولة للمستقبل. إنها تندفع من أزمة إلى أخرى دون أي إحساس بالاتجاه. إنها تعطي الأولوية لأراضيها على الرغم من أن التحديات التي تواجهها لا يمكن وقفها على أي حدود واحدة. في حين أن الانتخابات يمكن أن تغير الأشخاص المسؤولين عن الحكومة، هناك أمل أقل فأقل في أن يولد هذا الدوران تغييراً مجدياً، خاصة للأفضل. يبدو أننا محكومون من قبل حكومة واتسآبية، على حد تعبير جوناثان وايت الذي قال: «تقام العديد من المداولات الحكومية الجادة والمفاوضات الدولية من خلال رسائل نصية سريعة مملوءة بالبايتات بدون سجلات أو أجندة أو رؤية داعمة».

 غالباً ما يُنظر إلى الشعبوية والعيوب الشخصية لقادتنا على أنها أسباب الفوضى السياسية السائدة اليوم، لكن هذا الكتاب يقترح تفسيراً أكثر جوهرية. المستقبل قاتم بشكل متزايد لأن السياسة الديمقراطية ليست مناسبة للتعامل مع الزمان والمكان بطريقة تحمي مصالح الأجيال القادمة وتتغلب على حدود الدولة. لجعل المستقبل مرغوباً فيه، من الواضح أننا بحاجة إلى سياسيين يتمتعون بأفق أكبر يراعي الزمان والمكان، ولكن حتى رجال الدولة الأكثر مسؤولية يجدون أنفسهم مجبرين على اتباع طرق مختصرة بسبب الهيكل المؤسسي الذي يجدون أنفسهم محاصرين فيه. ترتبط الديمقراطية حالياً بالدول القومية التي تدافع عن المصالح الأنانية لمنطقة ومجتمع معين. كما أن الديمقراطية رهينة الناخبين الحاليين مع ما يترتب على ذلك من آثار ضارة على الأجيال القادمة. وهذا ما يفسر سبب تعثر السياسة في البيئة العالمية الأكثر ترابطاً، والتي تعمل بوتيرة أسرع من أي وقت مضى. وهذا يفسر سبب وجود شعور متزايد بالضعف الديمقراطي والعجز على الرغم من كل التطورات التكنولوجية، ويفسر سبب عدم تزامن السياسة بشكل متزايد مع الزمان والمكان».

 يرى المؤلف أن تغيير القادة أو تبني أيديولوجيات جديدة لن يحل في حد ذاته نوع المشكلات التي نواجهها؛ بل نحتاج إلى إصلاح الديمقراطية أو حتى إعادة اختراعها ووضع نظام جديد للحوكمة العالمية. يجب أن تعمل الحوكمة والديمقراطية معاً؛ يمثل الأول ناتج النظام السياسي، بينما يمثل الأخير المدخلات. يمكن للديمقراطية أن تزدهر فقط عندما تكون مدعومة بحوكمة فعالة، والعكس صحيح. بدون حكم قوي، لن تتمكن الديمقراطية من الحصول على درجة جيدة من السيطرة على الزمان والمكان. بدون ديمقراطية قوية، يصبح الحكم أداة بيروقراطية يستخدمها المسؤولون لإجبارنا على الامتثال لقراراتهم التعسفية. بالتأكيد نحن لا نريد إنشاء إمبراطورية عالمية من الزمان والمكان؛ بل نرغب في تسهيل ديمقراطية تحكم الزمان والمكان وتطوّعه لصالح الكوكب ومواطنيه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن المترجم

نضال إبراهيم
https://tinyurl.com/39z547rt

كتب مشابهة

1
داون سي ميرفي
1
مايكل كريبون
بوتين وشي جين بينغ
ريتشارد ساكوا
1
هاين دي هاس

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

المزيد من الكتب والكتاب

1
ميريام لانج وماري ماناهان وبرينو برينجل
جنود في كشمير
فرحان م. تشاك
لاجئون سوريون في تركيا
لميس علمي عبد العاطي
1
ديزيريه ليم
1
جيمي دريبر
1
جورج ج. فيث
1
باسكال بيانشيني وندونجو سامبا سيلا وليو زيليج
1
جيريمي غارليك