الأمن العالمي وتصدع النظام الدولي

01:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

للمرة الأولى منذ تسعينات القرن الماضي، عُقد مؤتمر ميونيخ للأمن في دورته التاسعة والخمسين، من دون حضور روسي، بعد دخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثاني. ويمثل المؤتمر، بما هو عليه، منصةً لتحديد أولويات الأمن العالمي، فرصة لمناقشات متعددة الجوانب، بعيداً عن الإعلام، وذلك من خلال تقارير خاصة، تقدمها مؤسسات شريكة، وهي مركز الأمن الدولي، والمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ووكالة الطاقة الدولية، ومعهد مركاتور للدراسات الصينية، ومؤسسة «فيكتور بينتشوك»، وتتناول هذه التقارير أهم القضايا التي تشغل قادة العالم، والاتجاهات العامة للسياسات.

في مقابل الغياب الروسي، كان الوفد الأمريكي هو الأكبر بين الوفود، وحضر بين أعضائه ممثلون عن البنتاغون والكونغرس والخارجية، وأعضاء كثر من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهو ما سيفسر إلى حد كبير، الزيارة غير المعلنة مسبقاً، للرئيس جو بايدن إلى كييف. لكن، في المقام الأول، يعكس هذا الحضور الواسع، رغبة واشنطن في إظهار قيادتها للحلف الغربي في مواجهة روسيا، وتأكيد قيادتها أكبر قوة عظمى لقضايا الأمن العالمي، خصوصاً في حضور الصين، الذي أعلن وزير خارجيتها وجود مبادرة لبلاده، لحل سياسي للأزمة الأوكرانية.

ثلاث قضايا رئيسية، احتلت النقاشات الأبرز، وهي الحرب الأوكرانية الروسية، والعلاقات المتأزمة بين واشنطن وبكين، وإمدادات الطاقة، أما القضايا الأخرى التي حضرت، فهي تأتي في المرتبة الثانية، على أهميتها، مثل قضية المناخ؛ حيث لهذه القضية مسار خاص بها، وهناك اتساع الهوة الطبقية بين الأغنياء والفقراء، والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهذه القضايا الثلاث الأساسية، شهدت تطورات بارزة في العام الأخير، تجعل منها سلّة متكاملة، غير منفصلة، وهو ما أوضحته مناقشات وأجواء مؤتمر ميونيخ، فقد وجّهت واشنطن تحذيراً لبكين، في لقاء جمع وزيري الخارجيتين، من أن تقوم بكين بدعم موسكو بالأسلحة، أو مساعدتها على الالتفاف على العقوبات الغربية، وكل ذلك وسط أجواء متوترة، بعد إسقاط واشنطن لمنطاد صيني، تقول واشنطن إنه لأغراض تجسسية.

في المسألة الأولى، المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية، شدد الوفد الأمريكي على ضرورة استمرار الدعم الغربي لأوكرانيا، ومن وراء ذلك، دفع ألمانيا أكثر نحو الالتزام بخطوات متقدمة في مجال الدعم العسكري للجيش الأوكراني، وحسم التردد في الأوساط السياسية الألمانية تجاه ملف الدعم، وهو ما كانت مؤشراته قد ظهرت، خلال الشهرين الأخيرين، بعد موافقة برلين على تزويد كييف بدبابات «ليوبارد 2»، والسماح لدول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، بتزويد كييف بهذه الدبابات، مع تعهد ألماني بتعويضها من إنتاجها المستقبلي، وما هو مهم من وجهة نظر واشنطن، إبقاء التوجّه الألماني متشدداً حيال موسكو، نظراً للموقع الخاص لبرلين في قلب الاتحاد الأوروبي، اقتصادياً وسياسياً.

التماسك الأوروبي، والتشدد تجاه موسكو، المطلوبان أمريكياً، لا ينفصلان عن ملف علاقاتها المتأزمة مع بكين، فكلما برز الموقف عبر ضفتي الأطلسي موحداً تجاه موسكو، وغير قابل للتراجع، وفيه مستوى عالٍ من التنسيق متعدد المستويات، كلما كانت الرسالة السياسية لبكين أقوى، خصوصاً أن الأعوام الأخيرة، شهدت تراجعاً في الاندفاعة الأوروبية تجاه المشروع الصيني الاستراتيجي، المتمثّل في مبادرة «الحزام والطريق»، وقد أسهمت في هذا التراجع جائحة كورونا، وموجة التضخم التي تلتها، ولا تزال مستمرة وضاغطة، بسبب الحرب في أوكرانيا.

في ملف إمدادات الطاقة، هناك نقطتان رئيسيتان، تم نقاشهما في مؤتمر ميونيخ، الأولى استمرار تأمين فاقد الطاقة الروسية، والثاني خفض التكاليف، ويبدو تحقيق أهداف هاتين النقطتين في حالة تعارض، فعلى الرغم من وجود ارتياح أوروبي حذر من تأمين إمدادات الطاقة، بما يسمح بتجاوز المشكلات الرئيسية في العام الحالي، فإن ارتفاع تكاليف الطاقة، انعكس سلباً على مجمل الاقتصادات الأوروبية، بما في ذلك الاقتصاد الألماني نفسه؛ حيث تشهد معظم الدول الأوروبية احتجاجات نقابية ضخمة، ضد موجة التضخم الحالية، من دون أن تكون هناك احتياطات مالية كافية، لمواءمة الأجور مع الأسعار الراهنة.

إذا كان مؤتمر ميونيخ للأمن هو الفرصة الأوسع لتحديد أولويات الأمن العالمي، ومحاولة إيجاد حلول لها، في إطار حفظ السلم العالمي، إلا أن نسخة هذا العام، التي تأتي على وقع أزمات عالمية عاصفة، فإنها تظهر مستوى التصدّع في النظام الدولي، وغياب التفاهمات بين القوى العظمى على طبيعة الحلول، وآليات التوصل لها؛ بل إنها تذهب نحو تكريس المواجهات، وتصليب المواقف بين الأطراف، واستعادة منطق الحرب في العلاقات الدولية، في الوقت الذي تهمل فيه واحدة من أهم قضايا الأمن، أو تصبح في ذيل الأولويات، وهي اتساع رقعة الفقر عالمياً، وانهيار دول ومجتمعات بأكملها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y55kab6t

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"