عادي

أزمة ثقافة

23:13 مساء
قراءة 5 دقائق

القاهرة: وهيب الخطيب

في اللغة الإنجليزية تبدو كلمتا نقد وأزمة قريبتين «Criticism, Crisis»، ولعل هذا التقارب لم يكن أبداً أكثر وضوحاً مما هو عليه اليوم، وهو ما سبق أن شدد عليه الناقد الأمريكي، بول دي مان. فالحديث عن الحركة النقدية الراهنة يستدعي بالتبعية الكلام عن دور الناقد، الذي يحصره كثيرون في كتابة المراجعات للإصدارات الأدبية، في حين نراه دوراً ثانوياً يمكن أن يؤديه النقاد، أو غيرهم من متابعي الحركة الأدبية، واللافت أنه في الثقافات غير العربية يؤدي الصحفيون وخبراء الكتابة الأدبية دور الكتابة ونشر المراجعات.

يتقدم النقد الجاد على أساس أنه ممارسة تسعى لفك رموز الحاضر والاستعداد للمستقبل، وقراءة الواقعين الآني والآتي تستدعي منظومة فكرية ونهضوية متكاملة، ولا نبالغ إن قلنا إن الفنون والآداب عماد هذه المنظومة وعمودها الفقري، ولا ازدهار للفن والأدب من دون حضور بارز وواع للنقد والممارسة النقدية.

أزمة كبرى

الحديث عن أزمة النقد كما هو ليس بجديد، فهو أيضاً ليس عربياً فحسب، فمنذ عقد من الزمان، في عام 2011، حرر المحاضر في الأدب الإنجليزي بجامعة كارديف، بول كروسثويت، كتاباً عن «النقد والأزمة والسرد المعاصر.. آفاق نصية في عصر المخاطر العالمية»، يقول: «لا توجد لحظة من دون أزمة، تلقي بظلالها على الفنون والثقافة». وينطلق الكتاب في فهم الحياة الاجتماعية على أنها محددة من خلال سلسلة من الأزمات العالمية المتداخلة، مثل الأزمات المالية والاقتصادية والبيئية، أو الجيوسياسية، فضلاً عن أزمات الإرهاب الدولي والصحة العامة، في محاولة للإجابة عن تساؤلات من قبيل ما دور النقد الأدبي والثقافي في تصور هذا السياق من الأزمة الدائمة؟ وبأي طرق تعالج الأزمة؟

وتزخر المكتبة الغربية بعدد من المؤلفات التي تحمل عناوين «أزمة النقد»، أو تتناول القضية ذاتها، فسبق كتاب بول كروسثويت، كتاب حرره موريس بيرجر، وهو صحفي بالأصل، بعنوان «أزمة النقد»، ودور النقاد بوصفهم طبقة نخبوية تشرع الأذواق الثقافية، وإن اهتم الكتاب بالنقد بالفني لكنّه واضع المؤلفون على نحو عام سلطة الناقد ومسؤولياته على طاولة المساءلة، بجانب مناقشة أسئلة من قبيل هل يمنح النقاد إذناً ثقافياً أم أن عملهم مجرد وصف؟ هل يوجد نشاط نقدي؟ كيف يمكن للنقاد سد الفجوة بين منتجي الفنون وبين الجمهور؟

ومع افتراض أن الأزمات ضرورية لتقدم النقد، فوجوده من الأهمية التي لا غنى عنها، فالأزمات تحتاج إلى النقد، والعكس صحيح، لكن الإشكالية حقاً أن تصيب الأزمة النقد ذاته، الأمر الذي سبق أن دفع بالناقد البريطاني رونان ماكدونالد، إلى الإعلان عن «موت الناقد»، معتبراً أن زمن الناقد؛ بوصفه الحكم الفيصل الذي يقرّر ما يستهلكه الجمهور على الصعيد الثقافي، قد ولّى.

ومع ثانوية دور المراجعات للإصدارات الأدبية بالنسبة للناقد، تكثر الشكوى من عدم متابعة الإصدارات بالكتابة السيارة، وفي الدوريات والصحف العابرة، وهي شكوى مفتعلة وصراخها ليس في محله، فالمراجعات تبدو لنا أنها تجري بشكل دوري ودائم في الصحف المتاحة، كما يبدو أنها تؤدي الغرض المطلوب منها.

الاكتفاء بالبكاء

من وجهة نظرنا، الأزمة الفعلية هي أزمة مقروئية، أزمة قراءة، فكما لا يقرأ الناس الأعمال الأدبية، لا تُقرأ أيضاً الكتابات النقدية والفكرية كذلك، والعلّة أولاً تكمن في عدم القراءة والمتابعة الجادة. نعم، هناك أزمة في الكتابة النقدية، سطحية ومدرسية في أغلبها، لكن هذه الأزمة جزء من الأزمة التي نعيشها على مستويات عدة، سياسية واقتصادية وثقافية إبداعية، هي جزء من الكل، وليس الأزمة في كليتها.

ولا يجوز أن يكتفي متخصصو النقد بالتباكي على حال النقد، ففي الوقت الذي نشدد فيه على أن الأزمة في جوهرا أزمة مقروئية، فإنه من الواجب أيضاً ألا تستعمل هذه اللافتة «كشماعة» لتعليق الأزمة عليها برمتها، ويصبح من الضروري الوقوف أمام الخطاب النقدي وفحصه، وإعادة قراءته، بما يسمح بالكشف عن بعض جوانب ومواطن الأزمة التي يعانيها ذلك الخطاب.

واحدة من جوانب تلك الأزمة، المؤسسة الأكاديمية، وعلى الرغم من أن أقسام الأدب توفر ملاذاً لدراسة الكتب والإصدارات الإبداعية، لكنها، أي الأقسام الجامعية، ربما وضعت نفسها في مأزق، وبالطبع ساهم هذا المأزق في تراجع النقد وانطفاء بريق الممارسة النقدية.

ومن الرسوم التخطيطية للشخصية الناقدة التي كتبها الكاتب الساخر الإنجليزي، صموئيل بتلر، في منتصف القرن السابع عشر، «نبيل منحط» و«رجل حشيش» و«شاعر صغير» و«كاتب رومانسي»، وأكثرها شهرة اليوم هي «ناقد حديث». صورته وجهة نظر بتلر بوصفه طاغية، ومتحذلقاً، ومتعجرفاً، و«قارئاً غير لطيف للغاية»؛ «يكتب للصحافة من دون مقابل»؛ و«رجل لجنة في كومنولث الآداب»، هو حكم يقضي على نحو سيئ، على الكاتب الجيد، ويمتدح من دون تمييز. ويخترع العيوب عندما لا يجدها. لا يطيع أي سلطة، ولا يطيع شيئاً سوى التحركات الغامضة لقلبه وعقله، ويوزع قبعات غبية ولافتات بوقاحة وبقليل من البهجة. قد يشتكي المؤلفون لأصدقائهم، لكن ليس لديهم ملاذ. كلمة الناقد هي القانون.

عندما أصبح النقد تخصصاً أكاديمياً، تغير بطرق غير متوقعة، ولا يزال رسم بتلر يضرب على وتر حساس لدى الكتاب الذين ينقمون على النقد وأحواله، لكن في عصر بتلر كان الناقد المعاصر، جزءاً منه متسللاً، وجزءاً ساحراً، ومثل ظاهرة جديدة.

تغيّر شكل النقد عموماً منذ زمن بتلر وحتى الآن، القضية التي أصبحت موضوع كتاب جون جيلوري «الاعتراف بالنقد»، وهو سلسلة من المقالات القاسية أحياناً حول «تنظيم الدراسة الأدبية».

أمضى جيلوري معظم حياته المهنية في شرح كيفية الاستمتاع بالأعمال الأدبية، وتقييمها وتفسيرها وتدريسها؛ اشتهر بعمله التاريخي «رأس المال الثقافي» (1993)، والذي أظهر كيف أن التقييم الأدبي يستمد السلطة من المؤسسات - خاصة الجامعات - التي يمارس فيها. فالإيحاء، على سبيل المثال، بأن الشعراء الشباب كانوا متفوقين على الشعراء الكبار، كما فعل «تي. إس. إليوت»، أو أن أفضل شعر حداثي كان أدنى من أفضل نثر حداثي، كما فعل هارولد بلوم، مسألة قيمية وإطلاق أحكام، يجري تثبيتها مع الوقت، من خلال آليات نقل هذه الأحكام إلى القراء.

إذن، المؤسسات الجامعية كما يمكن أن تكون مصدراً للازدهار النقدي، يمكن أيضاً أن تكون منبعاً لتحجر الممارسة النقدية وتكلسها، خاصة إذا صارت تلك المؤسسات سلطة معيارية، تحتكر تحديد ما هو أدبي، وما لا ينتمي للأدب.

تصورات مغايرة

بعيداً، عن تكلس المؤسسات الجامعية وصورة الناقد الكاريكاتيرية، يبقى مسار آخر يفكر فيه المنظرون لإنتاج ممارسة نقدية فعالة، ألا وهو التطوير النظري، أو لربما إنتاج نظرية نقدية جديدة.

ومع الأهمية القصوى التي نوليها للنظرية، فإنها أيضاً ووحدها، غير كافية لازدهار النقد الأدبي، ففي العقود الأخيرة تطورت المناهج ونظريات النقد من نسوية إلى النقد الثقافي، إلى نقد بيئي وآخر جندري، ومع ذلك كما بينا، الجميع يشكو من حال الممارسة النقدية.

على أي حال، ورغم تسجيل أي ملاحظات فإن الخطاب النقدي طوال الثلاثين عاماً الأخيرة، نجح في شقه النظري- إلى حد ما- في تأسيس تساؤلات جديدة داخل مجال الدراسات النقدية، بتقديم تصورات مغايرة عن علاقة اللغة بالأدب، وخلخلة السائد والنمطي من الإجراءات المنهجية والنقدية، كذلك مقاومة استيطان «الميتافيزيقا» في الخطاب الأدبي وغير الأدبي، طارحاً - نقصد الخطاب النقدي- حزماً استراتيجية من الإجراءات والمقولات التي تطرح نفسها كخيار نقدي.

لا يزال الخطاب النقدي - في جانبه التطبيقي- أو لنقل الممارسة النقدية، محدود التأثير في خارطة النقد الأدبي، ولم تزل الممارسة النقدية المغامرة مجرد «فَلَتان» بحثي أو مغامرة «نقدية» من قِبل باحث أو ناقد.

عجز
لم تتحول الممارسة النقدية إلى جزء رئيسي من المجال النقدي العربي خاصة، والعالمي عموماً، الأمر الذي انتهى بعجز الخطاب النقدي وممارسته كفعل عام، عن أن يستحوذ على مساحات كبيرة من الفضاء الاجتماعي والثقافي في العالم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p9zvzrn

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"