التضليل والحرب النفسية

00:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

إذا كان جائزاً أن يقال إنّ الإيديولوجيا من عُدّة اشتغال الحروب ومن وسائلها التي لا غنى لها عنها - وهو جائز - فإنّ الذي ما عاد يكتنف أمرَه شكٌّ أو غموض أنّ الإعلام هو أفْعلُ أدوات الإيديولوجيا ووسائطِها الفعّالة، في عالم اليوم، على الإطلاق وأعمقُها أثراً وأَوْسعُها تأثيراً؛ على ما تُطْلِعنا على ذلك تجارب الحروب المعاصرة التي خيضت في مناطق عدّة في العالم، وعلى أداء الإعلام فيها وتأثيره.

تبدو هذه الحقيقة أَبْعَثَ على التّصديق في زمن الثّورة الإعلاميّة الذي نحن فيه منذ ابتداء العمل بنظام الإعلام الفضائيّ؛ إذْ بات في المُكْنَة الذّهابُ بالفعل الإيديولوجيّ إلى أبعد نقطةِ مخاطبةٍ وتأثيرٍ من دون مانعٍ من رقابةٍ أو سيادةٍ أو ما شاكل. نعم، من الصّحيح - تماماً - القولُ إنّ بعض هذه الإمكانيّات كان متاحاً قبل العهد الرّقميّ؛ أَيَّانَ كان العالَم يتمتّع بثمرات ثورة الترانزستور والبثّ الإذاعيّ، وحيث كان يسع الخطاب الإعلاميّ أن يتخطّى حواجز السّيادات فيصل إلى جغرافيّات بعيدة و- قطعاً - إلى الخصم أو العدوّ الذي يُراد إحداث التّأثير السّلبيّ في معنوياته. غير أنّ ثورة الإعلام السّمعيّ- البصريّ، الجارية منذ ثلث قرن، تُقدِّم من الممكنات للفعل الإيديولوجيّ ما ليس يمكن غيرها تقديمه، وأهمّ ما تسمح به ويمثّل موردَ قوّتها التّأثيريّة الأساس هو الصّورة بما هي خطاب متكامل الأركان، يحمل في جوفه معناهُ ومضمونه حتّى من دون مرافقةٍ صوتيّة.

في الوسع، إذن، أن نقول إنّ تسخير الإيديولوجيا في الحروب يحوّلها إلى سلاحٍ ناجع أو فعّال. وهو، وإنْ لم يكن يفتك بالأبدان، يفتك بالنّفوس والمعنويّات وينال من إرادة القتال لدى الخصم. لذلك ما عاد من نُدحةٍ عن توسّل هذا السّلاح وإعماله: قبل الحرب وأثناءها وبعدها. وقد يأخذ التّدخّل الإيديولوجيّ في الحرب أشكالاً متعدّدة ومتنوّعة تبعاً للحاجات التي تفرض هذا وذاك، من تلك الأشكال، غير أنّ الذي لا يكتنفه شكٌّ أنّ شكليْن منها مجرَّبين يظلاّن هما الأَفْعل والأجْزل فائدةً هما: التّضليل الإعلاميّ والحرب النّفسيّة.

من مقتضيات هزيمةِ الخصم أو على الأقلّ، إضعافِه وإرباكِ خططه تضليلُه ومخادعة وعيه والدّفْعُ بذلك الوعي إلى حيث يكون ما يحمله عن العدوّ من معلومات أو يقينيّات مجافياً لواقع الحال. يحصل ذلك حين يُحْرِز فعْل التّضليل الإيديولوجيّ نجاحاً في تزويد العدوّ بمعلومات زائفة يرْكنُ إليها الأخير ويتلقّاها وكأنّها صحيحة؛ أو حين يوحي إليه (العدوّ) باعتزامه نهْجَ خطط واستراتيجيّات بعينها فيما هو مزمِعٌ على غيرها... إلخ. والهدف، دائماً، شلّ إرادة العدوّ أو إرباك ترتيباته أو إيقاعه في التّناقض.

ويمكن، هنا، أن يتضافر عمل الإعلام الحربيّ والإعلام المدنيّ معاً في مجهودٍ واحد يصُبّ في الغاية عينها. وما من حربٍ، في التّاريخ المعاصر، نشبت وخيضت من غير أن يلجأ طرفاها أو أطرافها إلى استخدام أسلوب التّضليل، على الأقلّ منذ نجحتِ النّازيّة في أن تبنيَ جهازَ تضليلٍ إيديولوجيّ فعّال في حربها ضدّ الجيش السّوفييتيّ والجيوش الأوروبيّة. ولعلّ حربَ تدمير العراق في «عاصفة الصّحراء» (يناير- فبراير 1991) المثال الأجلى للحروب المزدحمة بأفعال التّضليل الإيديولوجيّ، المتوسِّلةِ في ذلك أحْدَثَ نجاحات التّكنولوجيا في ميدان الإعلام الفضائيّ، والسّابقة التي بُنيت عليها تجاربُ حروبٍ أخرى اندلعت في الثّلاثين عاماً الأخيرة.

لا تقلّ الحرب النّفسيّة أثراً في إصابة معنويّات العدوّ في مقتلٍ عن التّضليل الإيديولوجيّ إنْ هي لم تكن أفْعل. هي تشبهه، من وجهٍ، لانبنائها على أساسٍ دعائيّ، لذلك هي قد تسخّر معطيات التّضليل لتشتغل بها كوقود أو طاقة، وربّما مزجت ذلك بموارد من الواقع الفعليّ. ولمّا كان هدف الحرب النّفسيّة إيذاء معنويّات الخصم وجمهوره الاجتماعيّ، وإفقاده ثقته بنفسه: بجيشه وقادته وقدرته، كان لا بدّ بِمَن تُوكَل إليهم مهمّات شنّها من أن يتمتّعوا باقتدارٍ في الأداء على نحوٍ يشعر معه الخصم المتلقّي للخطاب بالخوف الاستباقيّ من المواجهة. لذلك لا تكون الحرب النّفسيّة ناجعةً إلاّ متى تمتّع القائم بها بصدقيّةٍ عند خصمه أو عدوّه، وبَدَا له صادقاً في ما يهدّده به لا مجرّد مهوِّلٍ لا يملك من عناصر التّهويل غير اللّغة.

ربّما بدا التّضليل والحرب النّفسيّة مجرّد أدواتٍ رمزيّة - أو حتّى مساعِدة - في حروب لا تقرِّر نتائجَها الإيديولوجيا، بل القوّة النّاريّة وحُسن التّخطيط والأداء. وهذا صحيحٌ لا مِرْية فيه، ولكن من قال إنّ أفعال التّضليل الإيديولوجيّ والحرب النّفسيّة لا تنتمي إلى ذلك التّخطيط الذي ينبغي أن يكون حسناً وشاملاً بحيث يوظّف موارد القوّة كافّة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p88c878

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"