العرب بين التحديث والحداثة

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

ستبقى إشكالية التحديث والحداثة، واحدة من أكبر الإشكاليات العربية تأثيراً في القرن الأخير، فهي لا تمثّل إشكالية نظرية محضة، وإنما إشكالية واقعية، تكثّف وتختصر سياقات ومآلات النهوض والتنمية العربيين، خصوصاً عندما يكون الحقل المعني هو الدولة، وكل ما يرتبط بها من أدوار ووظائف، تتجاوز مفهوم الدولة جهازاً، وفقاً للتعريف البيروقراطي، أو التعريف الكلاسيكي للدولة بأنها أرض وشعب ونظام سياسي، ليس لأن التعريفين غير مهمّين؛ بل لضرورة البناء عليهما، لكن من خلال استكشاف الحقل الاجتماعي، بكل ما ينطوي عليه من علاقات قوّة، يمكن لنا عبر فهم دينامياتها، الوصول إلى استنتاجات عملية، تفسّر لنا جوانب هذه الإشكالية، والصعوبات الكامنة أمام التحديث، أو الحداثة، أو أمام كليهما، أو حتى كيف يمكن لبعض أشكال التحديث أن تكون عائقاً أمام الحداثة نفسها.

الدول الوطنية العربية التي نشأت بعد سقوط السلطنة العثمانية، عاشت شعوبها أزمات عديدة، في مقدمتها إعادة تعريف الذات، فملايين البشر الذين كانوا يعرّفون أنفسهم بأنهم رعايا السلطنة، وجدوا أنفسهم أمام حالة جديدة تاريخياً، بعد زوال حكم سلطاني امتد لأكثر من أربعة قرون، بالتزامن مع صعود قوى دولية جديدة على المسرح العالمي، لعبت بعضها أدواراً انتدابية في منطقتنا العربية، وكانت إشكالية تعريف الذات قد بدأت تطفو على السطح، قبل نهاية السلطنة بعقود، من خلال اجتهادات بعض المفكرين، الذين عرفوا لاحقاً ب«مفكري عصر النهضة».

بدأت تبرز إلى السطح الفكري، السياسي مسألة الهوية، لكن هذه المرة، كان هناك عامل خارجي هو العامل الاستعماري، الحديث والحداثي في آن، ومن رحم هذا التناقض مع هذا العامل الخارجي، بدأت تتشكّل ملامح وطنية خاصة، مبنية على عنصر أساسي، وهو التمايز عن القوة الانتدابية، في الوقت الذي عملت فيه هذه القوة، بحكم مصالحها وتجربتها، في إنشاء الجهاز البيروقراطي للدولة، المستند إلى قوانينها، وقد استمرت تلك القوانين ركيزةً أساسية في قوانين الدول العربية، على الرغم مما جرى عليها من تعديلات كثيرة، لكنها بقيت تشكّل أرضية القانون المدني.

من حيث المبدأ، تقوم الدولة الحديثة على مبدأ التعاقد، الذي بموجبه ينشأ دستور وطني، يمثّل ويعبّر عن العقد الاجتماعي، ومن الناحية العملية، فإن معظم الدول العربية عرفت الدساتير منذ نشأتها، لكن هذا العنصر يبقى عنصراً ضرورياً، لكنه غير كافٍ، في تحديد مدى التحديث أو الحداثة لدولة من الدول، فجوهر الحداثة (إذا أمكن القول بجوهر واحد)، هو إحداث قطيعة معرفية مع الماضي، تتضمّن القطيعة مع الأسس التي تبنى عليها علاقات القوة في المجتمع، وبالتصريف العملي لمعنى جوهر علاقات القوة الاجتماعي في الدولة الحديثة، أنها دولة ذات حكم مدني، تكون فيها، أي الدولة، وسيطاً بين الفرد والمجتمع، لا تفرض على أي منهما أيديولوجية محددة، لكن بالنظر إلى تجربة الحكم في العديد من الدول العربية، سنجد أنها حكمت من قبل المؤسسة العسكرية، أو فرضت عليها السلطات أيديولوجيا أحزابها الحاكمة لعقود طويلة، وقد أثبتت التجربة العملية لهذا الشكل من أشكال الحكم فشلها التنموي والاقتصادي، ودخول بعضها في صراعات وحروب داخلية.

لا شك، أن الدولة الوطنية العربية، عرفت حالات تحديث عديدة، وبعض أوجه الحداثة، فقد أخذت بالصيغ التحديثية المتعلقة بالدولة جهازاً بيروقراطياً للتيسير والخدمة العامة، لكن مع فصل تام بين هذه الصيغ التحديثية وبين أسّسها الحداثي، وأحياناً يكون الفصل فاقعاً إلى درجة تجعل من الشكل الحديث نفسه مجالاً للشك، فالتجربة البرلمانية، التي تشكّل أحد أبرز أوجه الدولة الحديثة/ الحداثية، تصبح في بعض الدول العربية فضاء لتوزيع وتقاسم المنافع على أساس طائفي، وهو ما يعرف بصيغة «الديمقراطية التحاصصية»، كما في التجربتين اللبنانية والعراقية.

الحداثة بالتعريف هي تمظهر للعقلانية في العلاقة مع الطبيعة والمجتمع، يأخذ شكله السياسي الخاص به عبر الليبرالية في الحقوق، أي أن يكون العقد الاجتماعي المؤسس للدولة مبنياً على الفرد، ما يعني ألا تتناقض المرجعيات الدستورية مع الحقوق الأساسية للأفراد، أو تتبنى حالات تمييز فيما بينها، على أسس هوياتيه أو طبقية، وأن ينعكس هذا السياق الحقوقي في تعيينات واضحة، أي مجالات ممارسة هذه الحقوق، وأن يكون الأساس الذي تقوم على أساسه وظائف الخدمة العامة، والتعليم العام، والسياسة، والقضاء، وغيرها من المجالات.

حالات النمو التي عرفتها المجتمعات العربية، فرضت في العقدين الأخيرين، حالات من التصادم مع التحديث الشكلي المؤسساتي، الذي استنفد في بعض دول المنطقة الكثير من ممكناته العملية، في الوقت الذي يبدو قطار الحداثة، من دون سكّة واضحة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3kyr9ves

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"