إدارة القوة في العلاقات الدولية

00:45 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

أظهرت الحرب الروسية الأوكرانية أن الوصول إلى تسويات سياسية بين البلدين المتحاربين، أو بين روسيا والغرب الأطلسي، كانت له أسباب بنيوية تتعلق بالنظام الدولي، أي بنمط إدارة القوة في هذا النظام، وبسوء تقدير للعلاقات التي تحكم مجالات القوة، وبوجود تباينات بين الدول العظمى في طبيعة القوة التي تستند إليها في نظام العلاقات الدولية، وكل ذلك، يندرج في إطار عدم الاتفاق على الأسس المكوّنة لموازين القوى، حيث أسهمت العديد من التطورات التي شهدها العالم، بعد تسعينات القرن الماضي، وموجة العولمة الهائلة، في تغيير زاوية النظر إلى موازين القوى، كما كشفت عن تباين في قدرات الدول على امتلاك البنى العولمية، ما دفع بعض القوى إلى السعي لموازنة الخلل الناشئ، في محاولة لإرساء نظام دولي، يضمن مصالحها الاستراتيجية.

بقيت القوة الصلبة، المتمثلة بالجيوش، كمّاً ونوعاً، الأساس الأول في تعريف القوة في العلاقات الدولية، وذلك إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد كانت موازين القوى المؤسّسة على القوة الصلبة، كفيلة بضمان حالة من الاستقرار، طوال فترة الحرب الباردة (1945-1991)، لكن خلال تلك الفترة نفسها، بدأت تظهر مفاعيل القوة الناعمة، جنباً إلى جنب مع القوة الصلبة، ويمكن القول إن القوة الناعمة، تستند إلى ثلاث منظومات، الثقافة، والنظام السياسي، والعلاقات الخارجية، بغرض تقديم صورة جاذبة، قادرة على التأثير بالقواعد الجماهيرية للخصوم، خارج الحدود الوطنية.

اعتمدت القوة الناعمة الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً، على تقديم نموذج ثقافي/ سياسي ليبرالي، ونمط استهلاك مغرٍ، وعزّزت من مكانة اللغة الإنجليزية في العالم، بوصفها لغة العلم والاقتصاد والبحث العلمي والأدب، مع الترويج للديمقراطية، في مواجهة النظم المغلقة والأحادية، وذلك عبر آلة دعائية ضخمة، وتمويل كبير، ضمن برامج متعددة، تستهدف مختلف الشرائح الاجتماعية، ومقابل هذه القيم التي حملتها القوة الناعمة الغربية، بدا النموذج الآخر، المتمثل بالاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، نموذجاً متقشّفاً، وأيديولوجياً، أكثر من كونه نموذجاً للاشتراك في إنجازات التقدّم، ولم يعد خافياً على دارسي التاريخ القريب، كيف أسهمت القوة الناعمة، من بين عوامل أخرى عديدة، في تداعي النموذج الاشتراكي عبر العالم.

لكن، أيضاً حملت العولمة قوى أخرى للظهور، في مقدمتها القوة السيبرانية، والمرتبطة بالإنتاج المعرفي، الذي أطلقته ثورتا التقانة والاتصالات، وبالقدر الذي أسهمت فيه القوة السيبرانية في التقدّم العام للشعوب والدول، بقدر ما أضعفت استقلالية الكثير من الدول، التي لم تتمكّن من الانخراط في جهود كبيرة وخاصّة للحاق بالتقدّم السيبراني، كما أن استخدام معظم الدول لأنظمة معلوماتية واحدة، مهيمن عليها أمريكياً بشكل كبير، يجعلها، وبشكل آلي، تحت وطأة التأثير الأمريكي، الذي يمارس عبر شركات عابرة للقارات تتمثّل بكبريات شركات التكنولوجيا.

تشكّل القوى الثلاث السابقة، الصلبة، والناعمة، والسيبرانية، ما يسمى «القوة الذكية»، حيث تتّحد القوى الثلاث لتؤسس فضاءً تمارس فيه عملية تشاركية في إنتاج القوة، وعمليات توزيع أدوار فيما بينها، وهذه القوة الذكية هي عماد القوة الإمبراطورية الأمريكية، لكن في مقابل هذه القوة المركّبة، هناك القوة الأحادية، حيث ما زالت بعض القوى الكبرى، تميل إلى الاعتماد على عامل القوة التقليدي، المتمثّل بالقوة العسكرية، مع وجود سند أيديولوجي، ترتكز عليه العقيدة القتالية للجيش، كما يشكّل حالة من الوحدة الوطنية، في مواجهة الخصوم.

القوة الأحادية، تنظر بعين الريبة إلى بعض أهم النماذج الاقتصادية في العالم نجاحاً، مثل ألمانيا واليابان، اللتان تفتقدان القوة الصلبة المطلوبة لحماية مكتسباتهم التكنولوجية والاقتصادية والمعيشية، وتجعل منهما تابعتين للقوة الأمريكية، وهو ما يؤثر في أمنهما الاستراتيجي، خصوصاً في مواجهة دول عظمى، تعتمد على القوة الأحادية.

إن الوصول إلى نظام دولي مستقر، يتطلب اعتراف اللاعبين الكبار بأحجام بعضهم، وحدود قدرة كل منهم على التأثير في مجاله الإقليمي، أو في العالم، وإذا كان هذا الأمر ممكناً حين كان هذا الاعتراف مقصوراً على القوة الصلبة وحدها كمعيار للقوة، إلا أنه أصبح أكثر صعوبة في عالم تتعدّد فيه معايير القوّة، مع تراجع التأثير النوعي للقوة الصلبة كمحدّد وحيد في موازين القوى الدولية، لكن هذا الوضع المعقّد الذي يضع القوة الذكية في مواجهة القوة الحادة، باعتبارهما نموذجين متناقضين إلى أبعد حدّ، فهو يترك مجالاً واسعاً نسبياً، للكثير من الدول، أن تقوم بتطوير مكانتها بالاعتماد على معايير القوتين الناعمة والسيبرانية، وذلك من خلال تقديم نموذج جذاب للآخرين، على مستوى الثقافة والقيم والاقتصاد ونمط العيش، مدعوماً ببنى معلوماتية قوية، واستثمارات فعالة في البحث العلمي، بمجالات مؤثرة عالمياً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mtpu8jtx

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"