«ظلال مكّة»

هناك فرق كبير بين أن تأتي، زائراً، مدينة مكّة المكرّمة، بما لها من أهمية دينية وتاريخية في ثقافتنا العربية – الإسلامية، وبين أن تولد وتنشأ وتكبر فيها، وتصبح ابناً لها، ففي الحال الأولى، حال الزائر، وحتى لو تعددت زياراته إليها، سيظل يراها بعين العابر، فيما في الحال الثانية فإنه سيراها ويصفها بعين المقيم الذي عاش تفاصيل الحياة فيها، وتابع ما عاشته من تحوّلات، وهذا ما ينطبق على الكاتب السعودي أحمد بوقري، المولود في مكّة، والذي كتب جوانب من سيرة طفولته وصباه، وبالتالي سيرة جوانب من تاريخ المدينة التي هي مسقط رأسه، ومربع نشأته وتكوّنه الأول.
جاء ذلك في كتاب اختار له الكاتب عنوان: «ظلال مكّة»، مع عنوان شارح هو: «حكايات سير ذاتية». وقد وُفق الكاتب في هذا التوصيف لمادة الكتاب، فالغاية منه ليست تقديم سيرة مكتملة لصاحبه تغطي كل مراحل حياته من أوجهها المختلفة، وإنما هو بالفعل مجموعة حكايات تستعيدها ذاكرته من زمن الطفولة، والتكوّن، واضعاً إيّانا، كقرّاء، في أجواء المدينة الروحية، وأيضاً في نمط عيش سكّانها في الفترة التي غطاها في حكاياته عن نفسه، وعنها.
في المفتتح يأخذنا الكاتب إلى مقولة أبي حامد الغزالي «المضنون به على غير أهله»، ليشير إلى أن «الحديث عن المسكوت عنه هو الهيكل العظمي للبناء القص – سيري، إذ دونه يصبح البوح سطحياً، وباهتاً، وفاقداً لحرارته، وجرأته التاريخية والفنية»، واعداً قارئه بكسر ذلك في حكاياه عن ظلال البيوت، وذكرياته مع والده، وهو ما سعى إليه الكاتب في البوح ببدايات تشكلّه في المحيط الذي عاش فيه، ولا نعني بذلك الحيز العائلي الضيق فقط، وإنما فضاء المدينة كاملاً، من حيث هو مقصد للحجيج من مختلف ديار الأرض، ومن مختلف الثقافات والتكوينات وألوان البشرة.
 وحين نفرغ من قراءة حكايات أحمد بوقري، سنجد أنه ينطبق عليه ما قاله هو نفسه في الكتاب عن والده، الذي «لم يكن إلا ابن بيئته المكية، وفي أفقها المفتوح ابن بيئته الحجازية»، مع فارق مهم، هو أن الوالد ولد ومات في مكّة، حتى بعد أن ارتحل كثير من أهلها، بداعي الرزق والتحوّلات الاجتماعية، إلى جدة.. كان يقول لابنه، حين يلحّ عليه بالانتقال قرب بقية الإخوان والأبناء: «أنا كالسمكة، مائي هنا في هذا الوادي غير ذي زرع»، فيما رحل الابن عن مكّة لضرورات مواصلة الدراسة ثم العمل، ليفتقد الظلال الحيّة للمكان التي بقيت ذكراها تؤنسه.
[email protected]