مفارقات في تطوّر المعاني

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

ما رأيك في جولة نمرّ فيها على شذرات من علم تطوّر الدلالات؟ الكلمات كائنات حيّة، تولد وتنمو، وتغيّر أحياناً صورتها وهويتها، فتغيّر مفاهيم الناس ومبادئهم وقيمهم. لكن، في أحيان أخرى يعنّ لها أن تركب قطار آلة الزمن حنيناً إلى الماضي.
أعمدة الصحافة ليست مجالاً للكلام النظري، هكذا قلت للقلم: هاتِ المقصود نقداً. قال: هل تذكر البيت الذي كسر الشافعي وزنه في المسلسل، ذاكراً أن شيخه، صاحب المذهب المالكي، كان يستشهد به: «وخيرُ أمور الدين ما كان سُنّةً.. وشرّ الأمور المحدَثاتُ البدائعُ»؟ نبتدئ المسألة بتطور المعاني، وهو الأبسط والأقل تعقيداً. البدائع كانت عند القدامى بمعنى البِدع، التي هي غير مستحبّة، إن لم تكن مستنكرة، لدى العقل المبني على السكون، الثابت الرافض للتحول، بينما المفترض في القوم الذين يؤمنون ببديع السماوات والأرض وبأن الإنسان خليفة الله في الأرض، أن يتوقوا إلى أن تكون لوجودهم نفحة من نفحات الإبداع. كانوا يقولون: «الإبداع هو الإتيان بالشيء على غير مثال». 
اليوم صار الإبداع وِرداً على ألسنة الشركات والمصانع حتى في تعليب المقرمشات وتصميم الأحذية الرياضية. بعد عصر النهضة كان الإبداع مقصوراً على روائع الأدب والموسيقى والتشكيل والعمارة. الروائع هي الأخرى نموذج آخر لتطور الدلالات. الرائع قديماً هو مصدر الترويع. بالمناسبة، لا يزال هذا المعنى قائماً في الاستراتيجية الأمريكية «الصدمة والترويع». جميل بثينة يقول: «لا تحسبي أنّي هجرتكِ طائعاً.. حدثٌ وربّك رائع أن تُهجري». تأمّل سخرية البيت إذا قرأناه بمفهومنا للرائع، يصير العجز هجاء لاذعاً. أمّا «المحدثات» فهي أخت البدائع التي استحدثت ولم تكن. منذ القرن العشرين، كانت الحداثة وما بعد الحداثة ديدن التيّارات الأدبية والفنية. اليوم، الحواسيب والجوّالات مشغولة بالتحديث ليل نهار.
الآن دع كل ذلك وتأمل المفارقات في خلفيّة البيت. ثمّة ما يشبه التناقض بين الشطرين. يقول الصدر تحديداً وتخصيصاً: «وخير أمور الدين ما كان سُنّةً»، لكن، لا شك في أن السنن النبوية كانت في الحقيقة تجديداً وإصلاحاً في عالم القيم قياساً على الجاهلية، والإسلام يجُبُّ ما قبله. في العجز: «وشرّ الأمور المحْدثاتُ البدائعُ»، أليس هذا في سياق الآية: «إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مقتدون» (الزخرف 23)؟ لا شك في أن البيت يعني ضرورة الاقتداء بصاحب الرسالة وعدم الخروج عن القيم الإسلامية. بقي أن استنساخ العصور محذور، حتى لا يُغلق باب الاجتهاد، فلا تتألق التنمية الشاملة باستيعاب كل «المحدثات والبدائع» في زمانها.
لزوم ما يلزم: النتيجة المنطقية: إذا كانت معاني المفردات تتطور، فكيف لا يتطور العقل وطريقة التفكير؟
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4a5zhsrv

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"