عادي
قرأت لك

«الديزل».. قصيدة روائية طويلة

14:53 مساء
قراءة 4 دقائق
تجتمع في «نوفيلا» «الديزل» للشاعر ثاني السويدي ما يجتمع أو ما اجتمع من مشتركات مكانية في «النوفيلات» السابقة: سيح المهب لناصر جبران، وتربيع أوّل لسعيد الحنكي أما المشتركات فهي: البحر ومفرداته مثل الغوص، والنوخذة، واللؤلؤ، ومن المشتركات أيضاً: الصحراء ومفرداتها مثل جماليات الرمل وإحالاته الغنائية في الذاكرة المحلية الخليجية عموماً، ونجد مشتركات أخرى بين هذه النصوص السردية مثل الجن والبيوت المسكونة والسحر، والكثير من المعتقدات الشعبية التي ترافق عادة سلوكيات مثل: طهور الفتيان، والأعراس وختم القرآن.. وغيرها من ظواهر ثقافية شعبية.
نوفيلا «الديزل» هي بيضة الديك لثاني السويدي، لكنها بيضة ثقيلة، فما أن صدرت في طبعتها الأولى في بيروت في عام 1993، حتى ظهرت لها طبعات تالية مُحتفى بها في مصر والعراق، وصدرت لها طبعة بالإنجليزية، ونقلها من العربية المترجم المعروف وليام هوتكنز عام 2012.
ولا بأس هنا من نقل بعض انطباعات هوتكنز عن الرواية، فهو يقول في مقدمته للترجمة إن رواية الديزل هي نمط أدبي مغاير يحمل سمات القصة المعاصرة، مكتوبة بلغة شعرية قريبة من قصيدة النثر «من كتاب عاشق البحر ثاني بن عبدالله السويدي: جمع وتوثيق عادل خزام – دار غاف -2022 دبي».. وفي كلام المترجم هوتكنز الكثير من الدقة النقدية، فالرواية أو نوفيلا «الديزل» هي قصيدة طويلة إذا أردت القول، لكن مع ذلك هناك مجموعة خطوط سردية تتلاقى وتتباعد في جسم الرواية ومركزها شخصية الديزل.. فمن هو الديزل؟ يقول عادل خزام الذي جمع أعمال ثاني السويدي في كتاب واحد المشار إليه أعلاه أن بطل الرواية «الديزل» هو أحد الفنانين الشعبيين في رأس الخيمة، ويسمى «الديزل» الذي يتحول إلى شخصية أسطورية في «النوفيلا» إنه مغنٍ للناس البسطاء الذين رأوا في رقصه وغنائه وموسيقاه ما يشبه السحر؛ بل هو السحر. لقد أصبح مشهوراً أكثر من إمام المسجد؛ بل إن أثره فاق أثر الإمام. إن الديزل؛ إذ يكتشف قوته الداخلية هذه، فإنما بدأ أيضاً في اكتشاف من حوله.. اكتشاف ذاته قبل أي شيء. يقول «ها أنذا أركب قوارب الشمس، أتوزع كل صباح على ألسنة الجميع:» هل رأيتم الديزل؟، كم كان رائعاً ليلة أمس.
*تقاطعات
يكتشف الديزل ذاته أيضاً على النحو التالي: «لقد اكتشفت كيف أن للرجل غريزة فنية أكثر من المرأة»، ويقول: «لقد كنت لهم يا صديقي الصوت الذي غيّـر كثيراً من حياتهم، بحيث إنني استطعت أن أحوّل بيتي إلى حانة صغيرة كنت أرقص فيها متمنياً أن تبقى عيونهم باتجاهي».
النوفيلا سرد شعري إن جاز التعبير. تتقاطع فيها الحكمة مع الشعر، مع السوريالي، مع الماء ورمزياته وجمالياته، مع الالتباس بين ما هو أنثوي وما هو ذكوري، أي بمعنى أنك لا تقبض تماماً في هذا النص على حدث في حد ذاته أو حوار في حد ذاته أو بطولة في حد ذاتها؛ بل هناك لغة شعرية دورانية، إن أمكن القول، أي أنها محتشدة بالصور المتتالية عالية الشعرية، لكن على الرغم من كل هذا الدوران اللغوي أو العصف الشعري يظل «الديزل» أشبه بعمود سردي يذكرك أن ما تقرأ ليس شعراً؛ بل هو رواية أو هو سرد.
لا يظهر «الديزل» في أول «النوفيلا»؛ بل يظهر في العشرين صفحة الأخيرة من النص الذي يتألف كله من 123 صفحة، لقد أصبح «الديزل» في مكانه وفي حضوره الشعبي «ليلاً جديداً يعطي للوقت دروباً جديدة تفضح النهار» ثم «بدأ كثير من أهالي البلدة ينسابون على منزلي، منزل «الديزل»، كخيوط الرمل» ثم «هذا هو «الديزل» بشكل أكثر وضوحاً كما لو أنه تحول إلى سلطة».. «لقد استطعت في فترة وجيزة، أن أشكل فرقة كبيرة، نصّبت فيها رئيساً روحياً، ونصّبت امرأة أسميتها الماما، كانت شديدة البأس والانضباط وكانت تحج كل سنة، تدعو لنا برحمته، كما جعلت رجلاً آخر مسؤولاً عن النظام أسميته الخيزران».
وفي مكان آخر من «النوفيلا» نقرأ صورة مقرّبة أكثر لشخصية «الديزل».. «ها هم أصحاب المال ينتظرونني، ونساؤهم في لهفة فضولية ليروا الديزل، كانوا أربعة يحملونني بينما أنا لابس عباءة وغترة وعقالاً وحين أطل وجهي من الباب، صرخ الناس باسمي، وبكى كثير منهم فرحاً..».
هذا هو «الديزل» الذي قامت عليه هذه «النوفيلا»، لكن لثاني السويدي رأي آخر.. يقول في مقابلة معه على إحدى الفضائيات التلفزيونية عام 2004 بأن «الديزل» صدمت القرّاء لجرأتها في تصوير بعض السلوكيات في منطقة الجزيرة العربية، وقال إن ثيمة الرواية كانت تدور حول أثر تنامي النفط على المجتمعات الصغيرة الموزعة بين ثقافتين، وفيما كان تأثير الثقافة الجديدة ينحصر في نطاق ضيق على من تشرّب قيمها، فإن الرواية هنا، تعنى بالثقافة الثانية التي انعكست في السلوك اليومي للأفراد.
لا تُقرأ «الديزل» إلا بمستوى واحد في رأيي الشخصي، وهو المستوى العالي لشعرية حياة «الديزل» نفسه. إنه شخصية عجائبية بالفعل. فنان أشبه بالمجنون. إن المهم في رأيي هو الدرجة العالية لحساسية الشعر في هذا النص المشدود أصلاً إلى طبيعة ثاني نفسها، وهي طبيعة الشاعر المولود من ملح البحر.
*حساسية
اقرأ هذه الحساسيات الشعرية في هذه «النوفيلا» القائمة أصلا على الجرأة وكسر الاعتيادي والمعقول في الحياة وفي الكتابة.. هذه هي حساسية ثاني السويدي الشعرية:
- الشمس تبكي ضوءاً- ساعة الكون هي الشمس.
- المرأة هي تكويننا الأول.
- كهوف كثيرة في صدر الجبل كرجل عظيم له أكثر من فم.
- هذا الشعاع كان انعكاس ضوء البحر فوق أجسادهم «أجساد بحّارة.
-البحر، آه هذا البحر، كما وددت أن أركب هذا الجمل المائي- أصوات حيوانات بدأت تتداخل مع أصوات نساء، بعد قليل سربٌ من الغربان حلّق فوقنا، لم انتبه أن الغربان تحمل غراباً ميّتاً ما لبثت أن رمت به أمامي.
-شُهُب كانت تساقط بكثرة في جوف السماء.
- كان دم البحر هو الماء نفسه.
هل يمكن مسرحة نوفيلا «الديزل» أو تحويلها إلى عرض على الخشبة ممتلئ بحقيقته الشعرية هذه».. نعم يمكن نقل «الديزل» من سرد شعري كما هو هكذا سحري وعاصف بالصور إلى مونوداما مسرحية مشبّعة بلغات عدة: لغة البحر، لغة الماء، لغة السحر، ولغة الشعر التي هي أخيراً «لغة اللغات» والتي عرف ثاني السويدي كيف يمسك بجمرها ولا يحترق.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/48weyn43

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"