اقرأ هذه الرواية «قيامة الآخرين» للكاتبة إيمان اليوسف على نحو أفقي إن جازت العبارة، ففيها أكثر من مستوى للقراءة «دار ممدوح عدوان، ودار سرد للنشر – الطبعة الأولى 2019» أولاً: المكان الإماراتي أو الروح المكانية الإماراتية، ثانياً: بيئة البحر ومفرداته، ثالثاً: شعرية اللغة الروائية، رابعاً: الإحالات أو المرجعية الأسطورية والفلسفية، خامساً: الجن بوصفه ظاهرة شعبية ممتدة في الكثير من السرديات الإماراتية، سادساً: القدرة الملحوظة للكاتبة إيمان اليوسف على الوصف.. وبعد ذلك أترك بطلة الرواية ذات الضمير المتكلم، وأترك الأحداث المتقاطعة المتشابكة بين الإمارات «دبي» والكويت وقطر.. أترك كل ذلك للقارئ.
هذه الرواية ليست حكاية؛ بل تخرج في الكثير من الأحيان عن طبيعة القصّ أو السرد، لتتحوّل إلى «نصّ».. نصّ فيه أكثر من مستوى قرائي أفقي كما اقترحت، يمتزج فيه أحياناً الواقعي بالمتخيل. تختلط فيه الصور مع الظلال، عبر شخصيتين توأم: هما ميعاد وأميرة اللتان تنقسمان إلى شخصيات أخرى، أكثرها غموضاً ذلك الرجل الملتحي.
تبدأ الرواية أو هكذا قرأت أو هكذا أريد أن أقرأ من منطقة «برّ دبي» وتحديداً «جميرا» «.. ابنة الماء، سليلة البرّ، يخبرني أبي أن البحّارة كانوا يستدلّون عليها دون غيرها من شدة بياض شواطئها وتوهجها».
الرواية أيضاً كما هي رواية مكان إماراتي بامتياز، وتحديداً هو مكان حداثي معاصر، هي أيضاً رواية استعادات ثقافية ومشهدية لقصة الطوفان «حين يفور التنّور» وهي، كما أشرت قبل قليل رواية مستويات عدة بجمل قصيرة تماماً. نعم إن ما يميّز هذه الرواية هو سرعتها، والسرعة سواء أكانت في الأحداث أم كانت في الكتابة نستشعرها، أي نستشعر هذه السرعة، من خلال الجمل القصيرة.
مكان السوق هو مكان البشر وأصواتهم وألوانهم وسلوكاتهم المحكومة عادة لثقافة السوق نفسها، ومن روح هذا المكان كان هذا المشهد الحيوي الذي يحبه كل من عرف السطوة، وبرّ دبي، وسوق نايف، وسوق الذهب. ثانياً: الرواية مشبّعة باللغة الشعرية. شعرية السرد أو سرد الشعر. هذا باختصار وجه رواية «قيامة الآخرين» اللغوي.. تقول في أحد المشاهد: «ماذا لو بدأ الطوفان من دموع القتلى؟» ثم «يتسرّب الطوفان الاثني، هذه المرة بلا أخشاب ولا نوح» ثم هناك «لازمة» أو ما يشبه «اللازمة» التي تُحيلنا إلى حاجة المصوّر الفوتوغرافي والمصوّر الرسام إلى الضوء «في الظلام لا شيء سوى وجهي تنيره شاشة الهاتف» ثم هناك «لازمة» ثانية: «ثم لم يبق شيء. القيامة ألا يبقى شيء سوانا»، ولعلّ شفافية الكاتبة الشعرية تتمثل أكثر ما تتمثل في حساسيتها تجاه ثنائية الامتلاء والفراغ: «كل شيء في مكانه. مرتب ونظيف وشهّي، لكنها كلّها ناقصة. لم يكن واضحاً مصدر ذاك الفراغ الشاسع الذي يعششّ في جنبات الأثاث».
تستشعر الكاتبة هنا «بالطبع على لسان الساردة» حجم الفراغ في الامتلاء. ثمة امتلاء بالأثاث، امتلاء بالكلمات؛ بل وقد يكون امتلاءً بالصحة أو امتلاء بالغرور، ولكن كل ذلك هو فراغ في فراغ. قوّة الاستشعار هذه هي في حدّ ذاتها طاقة شعرية.
البحر ومفرداته مشترك روائي وقصصي في كل السرديات الإماراتية بلا مبالغة، أينما اتجهت بوجهك ترى البحر ومفرداته، ومن مفردات البحر في السرد الإماراتي «النوخذة» ورمزياته وتاريخه، وذاكرته عند أهل المنطقة. المشهد مشحون بالتوتر الذي يفرضه الخوف من البحر، تتحدث أيضاً عن كائن بحري خرافي «خطّاف رفّاي» المخلوق الذي يظهر في هيئة شراع، وأحياناً سفينة كاملة، ولا يكون ذلك إلا في عرض البحر.
«يعترض خطّاف رفّاي السفن. يتأرجح في الماء كأنه محمل ضخم»، «تتضخم اهتزازاته، صعوداً وهبوطاً، كمهدٍ خالٍ يئن، تتوالى حركاته المتكررة كالموج الغاضب، حتى يرتطم بالسفينة، فيفلقها نصفين مهما كانت خبرة النوخذة، فلا أحد أعظم من هذا المخلوق اللعين».
من البحر إلى اليابسة؛ حيث الجن على الأرض، لا بل الجن في كل مكان، لكنه يتمثل على الأرض أكثر في الثقافة الشعبية الإماراتية. هذه الجنّية مثلاً، «أم الصبيان الجنية التي تدخل البيوت على هيئة دجاجة تتبعها أفراخها، فتقتل الأطفال أو تجعلهم تعساء بقية حيواتهم، ثم، النغّاقة، تلك البومة الضخمة الجسد ذات وجه العجوز الحزينة التي تحضر البؤس والشؤم معها أينما حَلّت»، «أما أمّي فيرتفع صوتها بالقرآن والأذكار، تظن أن بي مسّاً أو عيناً. ترقيني كل يوم. تحمل لي من ماء البحر لكي أستحم، أتطهر من عيونهم وشهقاتهم وشياطينهم وشياطيني والجن العاشق والجن الكاره».
رواية مكان، ورواية مشهديات وصور وانتقالات بصرية، ونفسية، وشعرية، وتقرأ أيضاً بشرط مفاجئ أو ربما يكون مفاجئاً للقارئ، وهو أن يكون قارئاً للأسطورة، والأهم من ذلك قارئاً للأمكنة الإماراتية التي يتحرك فيها هذا النثر العذبْ.
هذه الرواية ليست حكاية؛ بل تخرج في الكثير من الأحيان عن طبيعة القصّ أو السرد، لتتحوّل إلى «نصّ».. نصّ فيه أكثر من مستوى قرائي أفقي كما اقترحت، يمتزج فيه أحياناً الواقعي بالمتخيل. تختلط فيه الصور مع الظلال، عبر شخصيتين توأم: هما ميعاد وأميرة اللتان تنقسمان إلى شخصيات أخرى، أكثرها غموضاً ذلك الرجل الملتحي.
تبدأ الرواية أو هكذا قرأت أو هكذا أريد أن أقرأ من منطقة «برّ دبي» وتحديداً «جميرا» «.. ابنة الماء، سليلة البرّ، يخبرني أبي أن البحّارة كانوا يستدلّون عليها دون غيرها من شدة بياض شواطئها وتوهجها».
الرواية أيضاً كما هي رواية مكان إماراتي بامتياز، وتحديداً هو مكان حداثي معاصر، هي أيضاً رواية استعادات ثقافية ومشهدية لقصة الطوفان «حين يفور التنّور» وهي، كما أشرت قبل قليل رواية مستويات عدة بجمل قصيرة تماماً. نعم إن ما يميّز هذه الرواية هو سرعتها، والسرعة سواء أكانت في الأحداث أم كانت في الكتابة نستشعرها، أي نستشعر هذه السرعة، من خلال الجمل القصيرة.
- سباق الزمن
مكان السوق هو مكان البشر وأصواتهم وألوانهم وسلوكاتهم المحكومة عادة لثقافة السوق نفسها، ومن روح هذا المكان كان هذا المشهد الحيوي الذي يحبه كل من عرف السطوة، وبرّ دبي، وسوق نايف، وسوق الذهب. ثانياً: الرواية مشبّعة باللغة الشعرية. شعرية السرد أو سرد الشعر. هذا باختصار وجه رواية «قيامة الآخرين» اللغوي.. تقول في أحد المشاهد: «ماذا لو بدأ الطوفان من دموع القتلى؟» ثم «يتسرّب الطوفان الاثني، هذه المرة بلا أخشاب ولا نوح» ثم هناك «لازمة» أو ما يشبه «اللازمة» التي تُحيلنا إلى حاجة المصوّر الفوتوغرافي والمصوّر الرسام إلى الضوء «في الظلام لا شيء سوى وجهي تنيره شاشة الهاتف» ثم هناك «لازمة» ثانية: «ثم لم يبق شيء. القيامة ألا يبقى شيء سوانا»، ولعلّ شفافية الكاتبة الشعرية تتمثل أكثر ما تتمثل في حساسيتها تجاه ثنائية الامتلاء والفراغ: «كل شيء في مكانه. مرتب ونظيف وشهّي، لكنها كلّها ناقصة. لم يكن واضحاً مصدر ذاك الفراغ الشاسع الذي يعششّ في جنبات الأثاث».
تستشعر الكاتبة هنا «بالطبع على لسان الساردة» حجم الفراغ في الامتلاء. ثمة امتلاء بالأثاث، امتلاء بالكلمات؛ بل وقد يكون امتلاءً بالصحة أو امتلاء بالغرور، ولكن كل ذلك هو فراغ في فراغ. قوّة الاستشعار هذه هي في حدّ ذاتها طاقة شعرية.
البحر ومفرداته مشترك روائي وقصصي في كل السرديات الإماراتية بلا مبالغة، أينما اتجهت بوجهك ترى البحر ومفرداته، ومن مفردات البحر في السرد الإماراتي «النوخذة» ورمزياته وتاريخه، وذاكرته عند أهل المنطقة. المشهد مشحون بالتوتر الذي يفرضه الخوف من البحر، تتحدث أيضاً عن كائن بحري خرافي «خطّاف رفّاي» المخلوق الذي يظهر في هيئة شراع، وأحياناً سفينة كاملة، ولا يكون ذلك إلا في عرض البحر.
«يعترض خطّاف رفّاي السفن. يتأرجح في الماء كأنه محمل ضخم»، «تتضخم اهتزازاته، صعوداً وهبوطاً، كمهدٍ خالٍ يئن، تتوالى حركاته المتكررة كالموج الغاضب، حتى يرتطم بالسفينة، فيفلقها نصفين مهما كانت خبرة النوخذة، فلا أحد أعظم من هذا المخلوق اللعين».
من البحر إلى اليابسة؛ حيث الجن على الأرض، لا بل الجن في كل مكان، لكنه يتمثل على الأرض أكثر في الثقافة الشعبية الإماراتية. هذه الجنّية مثلاً، «أم الصبيان الجنية التي تدخل البيوت على هيئة دجاجة تتبعها أفراخها، فتقتل الأطفال أو تجعلهم تعساء بقية حيواتهم، ثم، النغّاقة، تلك البومة الضخمة الجسد ذات وجه العجوز الحزينة التي تحضر البؤس والشؤم معها أينما حَلّت»، «أما أمّي فيرتفع صوتها بالقرآن والأذكار، تظن أن بي مسّاً أو عيناً. ترقيني كل يوم. تحمل لي من ماء البحر لكي أستحم، أتطهر من عيونهم وشهقاتهم وشياطينهم وشياطيني والجن العاشق والجن الكاره».
- مشهديات
رواية مكان، ورواية مشهديات وصور وانتقالات بصرية، ونفسية، وشعرية، وتقرأ أيضاً بشرط مفاجئ أو ربما يكون مفاجئاً للقارئ، وهو أن يكون قارئاً للأسطورة، والأهم من ذلك قارئاً للأمكنة الإماراتية التي يتحرك فيها هذا النثر العذبْ.